أولاً: الموقف:
تغول وتطاول العدو المحتل لفلسطين على المنطقة العربية والإسلامية، مدعوماً، ومغطاً من قوى الهيمنة الغربية، وعلى رأسها أمريكا، الأمر الذي وفر، ويوفر له دعماً مادياً، ممثلاً بمختلف أنواع وسائط القتل والقتال التي تساعده في تنفيذ مخططاته، فضلاً عن الغطاء السياسي الذي توفره له تلك الدول في مختلف المحافل الدولية والعالمية، مما جعله متحللاً من أي مسائلة قانونية، لذلك فهو يمارس إجرامه في غزة، والضفة الغربية، فضلاً عن وصول آلة قتله إلى المحيط العربي، بدءاً بلبنان، ومروراً بسوريا، فصنعاء، فضلاً عن العدوان الذي شنه مؤخراً على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وما بدأنا نسمعه من أن أطماعه لن توفر تركيا، فضلا ً الباكستان! إن هذا التغول المدعوم غربياً، والمسكوت عنه عربياً، يوثر بشكل خطير جداً على منظومة الأمن القومي العربي والإسلامي. ولا يعني أن العدو إن كان مشتبكاً اليوم مع دولة أو دولتين من دول المنطقة والإقليم، أنه يغض الطرف عن باقي الدول العربية والإسلامية، حيث أنه يرى في هذه الدول منافساً إقليمياً ودولياً له، وأن استقرارها وازدهارها ونموها ورقيها، أمر ليس في مصلحته، الأمر الذي يفرض على هذه الدول أن ترى في خطر العدو وتغوله على أحدها؛ خطرٌ على المجموع، وهو ما ستحاول هذه الورقة أن تحلل معطياته، وتغوص في بعض تفصيلاته، فلا يؤكل (ثورنا) الأسود، بعد أن سُكت عن أكل أخيه الأسود.
ثانيا: تحرير المصطلح:
قبل البدئ في الحديث عن المخاطر والتهديدات التي تواجه الأمن القومي العربي والإسلامي كنتيجية للتغول الأمريصهيوني، لابد من تحرير المصطلح، لما له من أهمية في اشتقاق ومعرفة تلك التهديدات. لذلك سنعرفه بأبسط تعريفاته على أنه: مجموعة الإجراءات السياسية والعسكرية والأمنية والإقتصادية التي تقوم بها الدولة أو الكيان السياسي من أجل تأمين مصالحه الحيوية، التي تؤمن له ولمجموع أفراده ومكوناته المختلفة العيش الكريم، وأسباب التنمية والنمو المستدامة، والتي ــ الإجراءات ـــ تشمل التدابير الدفاعية والهجومية التي تضمن الحفاظ على و/ أو تأمن تلك المصالح وحمايتها من أن يُطمع فيها أو أن يُعتدى عليها.
ثالثاً: أهداف الأمن القومي العربي والإسلامي:
إن من أهم أهداف وغايات الأمن القومي العربي والإسلامي؛ المحافظة على وحدة وسلامة أراضي الإقليم العربية والإسلامية من أن يطمع بها، أو أن يُعتدى عليها، وامتلاك وسائل وأدوات الدفاع عنها. بحيث لا تتحول إلى جزر متفرقة، متنازعة ومتصارعة، أو مضارب بادية، يغزو بعضها بعضاً، مُجزأة، صغيرة الحجم، سهلة الهضم.
في العالم الحالي، ليس هناك دولة، أو وحدة سياسية، مكونة من قومية أو عرق أو مذهب واحد، فكل هذه الكيانات السياسية مركبة من مزيج من هذه المكونات، وما لم تمتزج وتنصهر هذه المكونات في بوتقة واحدة اسمها الوطن والأمة، فإن تعدد مكوناتها سوف يكون من أهم نقاط ضعفها، ومكامن ضررها ، بحيث يُستغل تعددها وتنوعها هذا، كثغرة ينفذ منها العدو إلى داخل هذه الوحدات السياسية والمجتمعات، ليمزقها، ويفرقها، ويسطر عليها.
فهي من أهم العوامل التي تؤدي المحافظة عليها وتأمينها، وحسن تنميتها واستثمرها وتوزيعها العادل، يودي إلى تقوية هذه المجتمعات، وحفظ وحدتها، وامتلاك ما يساعد في تأمين مصالحها والحفاظ عليها، والدفاع عنها عند أي خطر أو مَلمة.
وحيث أن الدولة الواحدة، فضلاً عن الدول مجتمعة، مكونة من أعراق ومذاهب وقوميات مختلفة، فإن ما يساعد على مزج هذه المكونات مع بعضها البعض، وتحويل هذا الاختلاف التركيبي إلى نقطة قوة، بدل من أن يتحول إلى نقطة ضعف، ومكمن ضرر، هو: بناء المشاريع التنموية المشتركة بين هذه المكونات المختلفة، الأمر الذي يولد قواسم عمل، ونقاط تقاطع مشتركة تجمع هذه الخلائط، وتحافظ على وحدتها، وتضمن أمنها وسلامتها.
رابعاً: التهديدات والمخاطر الناتجة عن التغول الأمريصهيوني:
حيث أن من أهم عناصر تقوية الأمن القومي العربي والإسلامي المكون من وحدات سياسية مختلفة، ومركبات مذهبية وعرقية وقومية ودينية مختلفة؛ مزج هذه المركبات المختلفة في خليط واحد صلب متماسك. في المقابل فإن أهم ما يهدد هذه الدول هو اللعب على تنقاضات مكوناتها تلك، والعمل على تفريقها، وضرب مشتركاتها، فهذا عربي أصيل، وذاك مستجد دخيل، وهنا كردي، وهناك بلوشي، وفي الإقليم الفلاني دروز وشيعة وسنة، يحق لهم أن يستقلوا ذاتياً، وأن يحكموا محلياً، أما النصارى وأهل الكتاب، فهم لروما وفرنسا، أقرب منهم لأبناء جلدتهم ومواطنيهم! إن هذا الموقف يوفر للعدو أهم ثغرات النفوذ، وعوامل توليد الفرص، التي تقضي على الدول، وتساعد في ضرب استقرارها واستقلالها، ومن ثم السيطرة عليها واحتلالها.
فمن قال، ومن يضمن أن النار التي ستشب في بيت جارك لن تمتد إلى دارك؟! ومن قال أن العدو إذا استهدف العراقي، لن تصل ناره إلى السعودي أو الكويتي؟ وهل أن النار التي يحرص العدو على نشوبها في إيران أو الباكستان، لن يتطاول شررها ليصل إلى أفغانتسان، أو تركمانستان؟ ليس هناك من ضامن أن (الثور) الأسود لن يُلتهم بعد أن يهضم( الثور) الأبيض، لذلك فمقتضى العقل والدين والمصلحة، حفظ الأبيض والأسود معاً، وعدم التفريط بأحدهما، طمعاً في نجاة الآخر.
فالعنصر البشري هو أهم عنصر من عناصر القوة الوطنية ومركباتها، لذلك فالاستثمار فيه، والحرص على أمنه وتأمين مصالحه، هو من أهم وظائف الدول والحكومات، ولأجله تُعقد العقود الاجتماعية، ويُتبانى عليها، وأي تهديد أو خطر يواجه هذا المكون؛ يعني خسائر، وأضرار، وهجرة، وتشريد، الأمر الذي يعني ضياع هذه الثروة، وتبديدها في غير طائل ولا مصلحة، وخسارة أهم عامل من عوامل استثمار وتنمية الثروات والمقدرات المادية المنتشرة على طول العالم العربي والإسلامي وعرضه.
فالعدو الأمريصهيوني عند عدوانه على الأمة، وما فيها من شعوب ودول، سوف يحرص على ضرب أصولها الاستراتيجية، وبناها التحتية التي تؤمن عناصر الصمود والثبات في مواجهة عدوانه، وهي أصول بنيت وروكمت على مدى عقود وأجيال، وصرفت عليها مُقدرت وأموال، وخسارتها تعني إرجاع هذه الوحدات السياسية، ومركابتها المجتمعية إلى الخلف عشرات السنين، مما يوفر للغرب المتوحش فرصاً لإعادة التحكم في هذه الدول، من باب إعادة بناء ما تهدم، وتعويض ما تدمر.
فأحد أهداف الحروب والنزاعات الحديثة، الخشنة منها والناعمة هو: السيطرة على مصادر الطاقة، وسلاسل التوريد الحياتية والصناعية، ومصادر المياه، وغيرها من مركبات القدرة الوطنية، والسماح للعدو الأمريصهيوني بالتغول على الأمة يعني: سيطرته على سلاسل ومصادر التوريد تلك، مما يعني تحكمه في مجريات الحياة اليومية للأمم والشعوب، الأمر الذي يوفر له عناصر وأدوات السيطرة عليها، والتحكم في مصيرها ومسارها.
كلنا يتذكر أن قوات المهام المشتركة للتدخل السريع الأمريكية التي أنشأت عام 1983، ومن ثم تحولت بعد ذلك إلى القيادة المركزية الأمريكية( CENTCOM)، هي قوات أنشأت أصلاً للتدخل والسيطرة على مصادر النفط في منطقة الخليج العربي، وما انتشارها واستقرارها الحالي في منطقتنا العربية والإسلامية، إلّا من أجل القيام بهذه المهمة العسكرية، لذلك فإن من أهم نتائج السكوت والتغاضي عن تغول العدو الأمريصهيوني في منطقتنا العربية والإسلامية، هو سرعة سيطرته ومصادرته لموارد الطاقة هذه، وحرمان أصحابها منها، وهذا أمر خطره مُتعدٍ، ولا يقف عند حدود دولة، أو على مشارف تخوم قبلية، أو عرق أو قومية من مكونات هذه المجتعات، وتلك الدول.
خامساً: الخلاصة والتوصيات:
في الخلاصة؛ إن الأمن القومي العربي والإسلامي، مركبٌ متعدد المكونات، تتعدد فيه الجغرافيات والأعراق والمذاهب والقوميات، من طنجة غرباً، إلى جاكرتا شرقاً، والتفريط في أمن جزء من هذه الأجزاء، يعني ضياع أمن البقية الباقية، والمحافظة على الجزء يعني تأمين سلامة الكل، الأمر الذي يتطلب من المكونات الرسمية والشعبية والحزبية والحركية لهذا الخليط، أن تتظافر جهودهم، وأن يعملوا مجتمعين للحفاظ على سلامة الكل، عبر حفظ أمن الجزء، الأمر الذي يتطلب:
إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.