هآرتس
ترجمة حضارت
عموس هارئيل
بنيامين نتنياهو لا يحب كلمة “استراتيجية”. في جلساته مع قادة الأذرع الأمنية يبدي ازدراءً لمجرد وجود المصطلح، مستشهدًا بوالده المؤرخ الراحل بن تسيون الذي نظر إليه بريبة. ليس معنى ذلك أن نتنياهو بلا أهداف استراتيجية؛ طوال ثلاثة عقود لوّح بعلمين: منع القنبلة الإيرانية وإحباط قيام دولة فلسطينية (حتى لو تظاهر عام 2009، لفترة وجيزة ولأغراض تكتيكية، بأنه مستعد لدعمها). في السنوات الأخيرة، وخصوصًا منذ بدء محاكمته الجنائية عام 2020، احتلت هدفًا آخر الصدارة لديه: البقاء في الحكم بأي ثمن.
في عالم نتنياهو تُستغل الفرص من موقع قوة وتُحفظ دائمًا خيارات للحظة الأخيرة. من عملوا معه يصفون رجلًا يدير دائمًا خلايا عمل مُقسَّمة: عشرات التحركات تُفحص وتُنفَّذ بالتوازي، وهو وحده يعي الصلة بينها وكيفية ربط تنازل في نقطة “ألف” بابتزاز في نقطة “باء”، بلا كوابح ولا ندم. بعد مجزرة 7 تشرين الأول، قال بعض ضيوفه الأجانب إنهم التقوا ظل رجل، قائدًا شاحبًا خائفًا من أن يطرده المواطنون من مقر إقامته في شارع بلفور بالحجارة والعصي نظرًا لمسؤوليته عن المجزرة. لكن سرعان ما تعافى نتنياهو ووضع تكتيكات بقاء جديدة.
يبدو أنه خلال إدارة الحرب انتهج سياسة أشد قتالية وتوسّعية ويأخذ مخاطر أكبر مما تجرأ في الماضي. وعلى الطريق بدا كأنه أحب فكرة جديدة: توسيع حدود الدولة لأول مرة منذ 1967. من هنا المغازلة الدائمة مع السيطرة على مناطق جديدة في الجولان والحرَمون وجنوب لبنان، وإلى جانبها السعي لضمّ المستوطنات في الضفة الغربية.
يوم الثلاثاء هذا الأسبوع، بعد محاولة اغتيال قيادة حماس في الدوحة، سخر أحد ناطقي نتنياهو من انتقادات اليسار مغرّدًا: “في يوم كهذا يجب أن نسأل: ما هي الاستراتيجية؟”. المقصود التهكم على الادعاءات بأن لا خطة لإنهاء الحرب وإعادة الأسرى والرفات المحتجزة في غزة. وفق محيط نتنياهو، هؤلاء معارضون صغار يرفضون رؤية الصورة الكبرى: نتنياهو أعاد لإسرائيل قوتها وقدرتها على الردع، وكل جيراننا يرتعدون.
غير أن ما جرى سرعان ما بيّن أن الأمور لا تسير كما تمنّت رئاسة الحكومة، وأن صورة إسرائيل كمن تستطيع دائمًا استخدام القوة كما تشاء بلا حدود كانت وهمًا. القطريون وحماس لا يزالان ينشران ضبابًا كثيفًا، لكن نتائج الضربة لا تبدو باهرة. الإعجاب بسياسة الاغتيالات والتمسك بها في غزة ولبنان وإيران واليمن والآن في قطر، على ما يبدو، لم يثبت نفسه هذه المرة. شيء ما اختلّ: إما معلومات استخبارية معيبة أو إنذار مُبكّر وصل حماس عبر قناة أميركية–قطرية. حاليًا يبدو أن معظم الأهداف أفلتت بسلام.
كل ذلك يحدّد النقد لإدارة الحرب التي ما كان ينبغي أن تُجرّ حتى تقارب ذكراها الثانية بعد أقل من شهر. في 7 تشرين الأول وقع تقصير إسرائيلي فادح أتاح لحماس تنفيذ مجزرة. هذه مسؤولية قادة المنظومة الأمنية الذين لم يحدّدوا الخطر في حينه ولم يستعدوا له كما يجب. لكنها أيضًا مسؤولية نتنياهو الذي تجاهل كل تحذيرات الأجهزة في الأشهر السابقة للحرب، وعمّق الانقسام الداخلي عمدًا وازدرى علنًا احتمال تكرار مفاجأة حرب يوم الغفران.
لاحقًا، سجّل الجهاز الأمني إنجازات كبيرة في غزة ولبنان وإيران. لكن ما يُفشل إسرائيل الآن هو بالضبط ما يحاول المستشارون تقليل أهميته: الرفض لترجمة الإنجازات العسكرية والاستخبارية إلى نتائج استراتيجية بعيدة المدى، حتى لو تطلب ذلك تنازلات سياسية أحيانًا. مرة تلو أخرى وقفت أمام إسرائيل فرص لإنهاء الحرب عبر صفقة وتثبيت الحدود. اختار نتنياهو العكس، لأن استمرار الحرب والفوضى يخدمانه، وبصورة مفارِقة يضمنان استقرار حكومته عبر الحفاظ على التحالف غير المقدس مع كتل اليمين الديني المتشدد.
في واشنطن يمكن رؤية عناصر الحرس الوطني الأميركي يجوبون مناطق مكتظة نتيجة قرار غريب آخر للرئيس دونالد ترامب أعلن فيه حربًا على الجريمة وإجراءات صارمة لحماية المواطنين. خلف خطواته حساب بارد: هو يتغذّى من الفوضى ويؤمن بأن ترسيخ صورته كحارس للنظام والأمن سيصرف الأنظار عن إخفاقاته الاقتصادية وفشل الإدارة. أول من أمس وجد ترامب إلهاءً إضافيًا في صورة محاولة اغتيال مؤثّر يميني متطرف محبوب لدى يمين إسرائيل.
في جوانب كثيرة، هذه الولاية لترامب أكثر فوضوية من سابقتها، لكنها تصطدم بتعب الإعلام الأميركي. الخطر على الديمقراطية الأميركية ليس أقل من نظيرته الإسرائيلية، لكن هناك لا ترى جماهير تخرج للدفاع عن طابع الدولة. كان أسبوعًا غريبًا للعلاقات الإسرائيلية–الأميركية: في العاصمة الأميركية انعقدت للمرة الثانية قمة منظمة جديدة ثنائية الحزبين لتعزيز العلاقات مع إسرائيل تحمل اختصار “حوار أميركي–شرق أوسطي”. حضرها ممثلو إدارة ترامب وكذلك مسؤولون من إدارة جو بايدن وساسة من يمين ووسط إسرائيل ومشاركون من دول عربية، باستثناء قطر لأسباب واضحة. الصحافيون سألوا أساسًا عن مغزى الاغتيال؛ ونُشرت في صحيفة أميركية بارزة أقوال لترامب قال فيها لنتنياهو إن العملية “غير حكيمة” — صياغة مهذبة تذكّر بأسلوب بايدن الذي كان يسبّ نتنياهو أمام مساعديه لكنه تجنّب مواجهته علنًا.
من يغلي فعليًا هم القطريون الذين ظنّوا أنهم قادرون إلى الأبد على اللعب في كل الملاعب: يضخّون المليارات لآلة حماس القتالية وفي الوقت نفسه يساعدون، حسب الشبهات، في تمويل مستشارين في محيط نتنياهو بأرقام أصغر. أعلن رئيس الحكومة متأخرًا أن إسرائيل لن تسمح لقطر ودول أخرى باستضافة “إرهابيين”، وإن لزم الأمر ستعمل ضدهم. يُثار على الأقل الاشتباه بوجود دافع إضافي: حاجة نتنياهو إلى الابتعاد علنًا عن الدوحة فيما يواصل التحقيق في “القضية القطرية” جرّ مستشاريه. حاليًا يهدد القطريون بسحب أيديهم من مفاوضات صفقة الأسرى، وقد يكون تهديدًا مؤقتًا؛ الخروج من اللعبة يعني فقدان التأثير، وهذا آخر ما تريده الدوحة.
وقع أيضًا تشويش في الاتصالات بين إسرائيل والولايات المتحدة حول الاغتيال، تفاصيله لم تتضح بعد. حسب البيت الأبيض، اكتشف الأميركيون في اللحظة الأخيرة عبر راداراتهم المنتشرة في قطر أن طائرات إسرائيلية في طريقها لقصف قادة حماس المجتمعين في فيلا خاصة لمناقشة خطواتهم بالمفاوضات. اتصل مبعوث ترامب لإبلاغ القطريين، لكن خلال ثوانٍ سمع من صحافيين عن انفجار في الدوحة. كان الأوان قد فات. مصادر إسرائيلية أخرى تقول إن كان هناك إبلاغ مسبق عبر قنوات سياسية منذ وقت. لم يتضح بعد إن كانت نجاة قادة حماس مرتبطة بإنذار قطري في اللحظة الأخيرة.
مسؤول استخباري إسرائيلي سابق قال بعد حوار استراتيجي في الخليج إن “أصدقاءنا في الدول المجاورة يجدون صعوبة في فهمنا. تُرى إسرائيل كجُليات شرق أوسطي يحطم الأشياء كما يشاء دون تنسيق مع أحد ودون اعتبار لرأي دول صديقة”. فعليًا تستمر الهجمات الإسرائيلية في أنحاء المنطقة، بما فيها قطر التي يزورها بانتظام مسؤولون من الأجهزة. ويمضي نتنياهو بخلاف إجماع رؤساء المنظومة الأمنية، رفضًا لصفقة وقرارًا بتنفيذ القصف الأخير.
هذا الأسبوع ذُكّر بفشل نتنياهو الأول في هذا المجال: محاولة اغتيال خالد مشعل عام 1997 التي تعقّدت. مشعل، “قطّ بتسع أرواح”، لا يزال في الصورة ولم يُصب هذه المرة أيضًا رغم وجوده في قطر. عام 2010 اغتالت إسرائيل القيادي محمود المبحوح في دبي، وانتهت العملية بموته لكنها سببت توترًا مع الإمارات بعد كشف هوية المنفذين. الفروق اليوم كبيرة: عام 1997 لم يكن نتنياهو يدير حرب استنزاف بلا طائل تواصل حصد أرواح إسرائيليين أسبوعيًا. بين أربعة أفراد طاقم الدبابة الذين قُتلوا الاثنين في جباليا كان جندي تجنّد في كانون الأول الماضي. المقاتلون بالكاد ينهون التدريب ويُرسلون إلى القطاع بسبب نقص القوى البشرية، ونتنياهو سيواصل منع تجنيد الحريديم.
لا يمكن فصل قصف قطر عن مفاوضات الأسرى وعن محاولات نتنياهو الواضحة والمتكررة لإحباط أي تقدم. في 18 آب هذا العام ردّت حماس إيجابًا على اقتراح الوسطاء بصفقة جزئية لإطلاق نصف الأسرى. في 5 أيلول ردّت إسرائيل إيجابًا على اقتراح صفقة كاملة. في 9 أيلول قصفت طاقم التفاوض الحمساوي. لم يتقدم شيء في المباحثات ويبدو أنه لن يتحرك قريبًا. بالمقابل يواصل نتنياهو التهديد باحتلال مدينة غزة وسلاح الجو قصف هذا الأسبوع عدة أبراج فيها.
الخط الذي عرضته الحكومة الإسرائيلية في مؤتمر واشنطن كان متشددًا جدًا حتى دون حضور كتل اليمين المتطرف: تسويق عالم جديد “جريء” لا انسحاب فيه من أراضٍ، ولا مكان فيه لحماس أو للسلطة الفلسطينية لحكم القطاع. الضغط العسكري في غزة ورقة لفرض الاستسلام على حماس، ولا تردد حتى حيال احتمال أزمة حادة مع مصر عند محاولة دفع مليون أو أكثر من سكان غزة إلى سيناء. والضم في الضفة ما زال على الطاولة.
على الأقل في المسألة الأخيرة، يتوقع أن يواجه نتنياهو صعوبات فعلية. فقد أبلغت الإمارات إسرائيل بوضوح أنها لن تؤدي أي دور إيجابي لها لا في لبنان ولا في غزة قبل شطب خطة الضم نهائيًا من جدول الأعمال. في هذه الأثناء يبدو نتنياهو مضطرًا لاستيعاب الرفض خشية أن تتحقق تهديدات أبوظبي.
مفاجأة الأسبوع الإيجابية كانت الإفراج قبل يومين عن الباحثة الإسرائيلية إليزابِت تسوركوف التي احتُجزت نحو عامين ونصف لدى مليشيا شيعية في العراق. طويلًا بدا إنقاذها حالة ميؤوسًا منها، لكن مجزرة 7 تشرين الأول خلقت مصالح وتوقعات جديدة في المنطقة. خلف الكواليس جرى على ما يبدو جهد أميركي واسع لإنقاذها. قبل أسابيع أُفرج عن مواطن عربي–إسرائيلي اعتُقل في لبنان العام الماضي بعد عبوره الحدود شمالًا بظروف غامضة. وسائل إعلام عربية قدّرت أن هذه “اللفتات” تمهّد للإفراج عن أسرى حزب الله لدى إسرائيل، وفي مقدمتهم قائد بارز نسبيًا في الكوماندوز البحري خُطف في غارة إسرائيلية شمال لبنان.
في الخلفية، تُبذل محاولات أولية لاستئناف المفاوضات بين إيران والقوى الأوروبية حول تفعيل آلية “العودة التلقائية” للعقوبات الشهر المقبل بسبب خروقات الاتفاق النووي. الإيرانيون يلمّحون إلى استعداد لإعادة رقابة الوكالة الدولية على مواقعهم النووية، لكن الطريق طويلة. إدارة واشنطن مقتنعة إلى حد كبير بأن طهران عادت إلى مزاج صفقة؛ القيادة لن تتخلى بسهولة عن حلم النووي لكنها لا تستطيع تجاهل الواقع. الهجوم الإسرائيلي في حزيران عرّى إيران وأوقعها في موقع ضعف، ولم يتوقعه القائد الأعلى ومحيطه ولا انضمام ترامب إليه. تتراكم تهديدات إضافية أبرزها أزمات كبيرة في إمدادات الماء والكهرباء داخل إيران.
من المؤتمر في واشنطن برزت معطيات: الإيرانيون يقفون خلف ما لا يقل عن 45 محاولة أخيرة لاستهداف سفارات وبعثات إسرائيلية حول العالم، كما أوقف الشاباك نحو 40 مواطنًا إسرائيليًا جُنّدوا عن بُعد من الاستخبارات الإيرانية لتنفيذ تخريبات، بينها مراقبة عالم إسرائيلي وطيار في سلاح الجو وحتى رئيس الشاباك السابق.
في الوقت نفسه تستمر الهزّة داخل الشاباك ضمن جهد متعمد من نتنياهو لإضعاف الأجهزة وتعيين على رأسها أشخاصٍ موالين له شخصيًا وسلبها القدرة على تقديم تحليلات وتقديرات مستقلة. أمس، وبعد انقضاء المهلة التي حدّدتها المحكمة العليا، توجّه رئيس الحكومة إلى لجنة غرونيس الاستشارية للمناصب العليا طالبًا المصادقة على تعيين اللواء احتياط دافيد زيني رئيسًا للشاباك. يأمل نتنياهو تمرير التعيين بسرعة البرق قبل نهاية الشهر، لكنه قد يواجه عقبات بينها أن إجراءات تعيين أعضاء جدد في اللجنة لم تكتمل بعد.
رسالة نتنياهو القصيرة إلى اللجنة يمكن قراءتها كسلسلة أسباب مقنعة لعدم تعيين زيني: ذكر أنه قابله لمنصب سكرتيره العسكري لكنه لا يذكر أنه رفض التعيين بزعم أن زيني “مسيحاني”. يستعرض سلسلة مناصب قتالية لزيني في الجيش تكاد لا تكون ذات صلة مباشرة برئاسة الشاباك، ويصف خبرة في “بناء القوة” لدى الأجهزة ليست في الواقع لديه. على الأقل لم يُثقل اللجنة مرة أخرى بحكايات عن “تقرير نَبَوي” لزيني قبل 7 تشرين الأول، الذي كان فعليًا توصيات تكتيكية صغيرة على حدود غزة بينها شكوى من ارتفاع الأعشاب قرب السياج.
ومع ذلك، يُشك في أن تتوفر للجنة حجج كافية لرفض التعيين، الذي قد يكون الأكثر درامية وإضرارًا بالأمن وإنفاذ القانون منذ قيام الحكومة الحالية في كانون الأول 2022. سؤال آخر: كم سيصمد رئيس الأركان أيال زامير في ظروف كهذه، والحكومة تفرض عليه احتلال غزة وتُضعف مكانته باستمرار.
قبل أسابيع نشر وليام بيرنز، المخضرم في السلك الدبلوماسي ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية في عهد بايدن، مقالًا في مجلة أميركية على خلفية حملات التخويف والتهديدات والإقالات التي تديرها الإدارة الحالية في واشنطن. في ما وصفه برسالة إلى “خُدّام الدولة المتروكين” كتب: “استحققتم أكثر. أنا فخور جدًا بخدمتي إلى جانب كثيرين منكم. خبرتكم وخدمتكم العامة البطولية أسهمت كثيرًا في مصالح بلادنا”. وأضاف: “أديتم قسمًا لا لحزب ولا لرئيس بل للدستور. الفرق كبير بين الرغبة في إصلاح كآبة بيروقراطية وبين تحويل خُدّام الدولة إلى روبوتات سياسية. هذا ما يفعله الأوتوقراطيون: يُخيفون خُدّام الدولة حتى استسلامهم ويخلقون منظومة مغلقة خالية من الآراء المعارضة والحقائق غير المريحة”. سجّل كثير من أصدقائه في المنظومة الأمنية الإسرائيلية هذه الكلمات أمامهم.