عقيدة "كوخافي"

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

" عقيدة " كوخافي !! 

عندما وضعت حرب تموز بين حزب الله والعدو الإسرائيلي أوزارها في آب 2006، وعاد الناس إلى قراهم ومدنهم في الجنوب اللبناني، ثم دخل أهل الضاحية الجنوبية إلى شوارعها وأزقتها، وعاينوا مدى الدمار والخراب الذي ألحقته آلة الحرب الصهيونية في المباني والشوارع والبنى التحتية ؛ قفز إلى الأذهان السؤال الذي جاءنا جوابه بعد سنتين على انتهاء الحرب في لبنان، أي في عام 2008، حيث بدأنا نسمع عن " عقيدة الضاحية " وما ينبني على هذه العقيدة من سلوك قتالي خلاصته ؛ القتل والتدمير وقلب الأرض رأساً على عقب، كما رأينا مصاديق هذا السلوك غير المنضبط في حروب العدو في غزة في فصولها الثلاثة السابقة، وفي فصلها الأخير في معركة " سيف القدس "، حيث نشر العدو دماره وخرابه في كل مكان في محاولة " لكيّ وعي " المقاتلين وحاضنتهم الشعبية ؛ علّها تنفضّ عنهم وتنقلب عليهم، لقد تحول الهدف في معارك العدو مع المقاومة إلى القتل لمجرد القتل والتدمير لمجرد التدمير . ثم جاءنا رئيس هيئة الأركان الحالي الجنرال (الفيلسوف) "أفيف كوخافي " فوضع توصيفاً للجيش الذي يريد والمهمة المطلوبة منه ؛ فعندما عرّف الجيش الذي يريد قال: أنه يريد جيشاً يتصف بالنجاعة والفتك والذكاء، والعارف ببواطن الأمور وكيف تدار ؛ يعرف أن هذا التوجيه من رئيس هيئة الأركان يسمى "تدبيراً قيادياً " يجب على أهل الاختصاص أخذه وتحويله إلى إجراءات و( أوامر قوات ) تنعكس على سلوك التشكيلات القتالية، كتطبيقات وتكتيكات وحركات قتالية ميدانية، ثم رأينا بعد هذا التعريف والتوصيف لكوخافي مصاديق هذا " التدبير القيادي " وكيف انعكس على سلوك جيشه عندما وضع أهل الاختصاص ــ ركن العمليات بشكل رئيسي ـــ المعادي "الدليل التخطيطي" للعمل التعبوي  والذي جاء فيه أن أي عملية عسكرية يجب أن تكون:

  1. قصيرة المدة . 
  2. تحقق النصر الواضح من خلال: التدمير المضاد لقدرات العدو، وزخم ناري من مختلف الصنوف . 
  3. تتمتع العملية بتفوق استخباري يكشف العدو كشرط لتدميره . 
  4. ربط قدرات الهجوم المكاني البحري والجوي بوحدات النخبة . 

كان ذاك " التدبير القيادي " و " الدليل التخطيطي" من أجل تحقيق " أهداف المعركة " التعبوية والتي تتمثل في: 

  1. الإزالة السريعة للتهديد عن الجبهة الداخلية . 
  2. الحاق أضرار جسيمة بالعدو من أجل هزيمته . 
  3. المحافظة على الشرعية الداخلية والخارجية ضمن مستوى مقبول غير معيق للميدان . 

ثم ختمت أدبيات العدو المنتشرة والمكشوف عنها بأن ذلك " التدبير " وذاك " الدليل " و تلك " الأهداف " لا يمكن أن يتم مراعاتها والعمل ضمن مقتضياتها وتحقيق أهدافها إلّا عبر طريقة وحيدة هي: تفعيل مختلف صنوف القوات والاختصاصات ضمن مناورة برية سريعة ومميتة وعدوانية في عملية حشد وتعبئة سريعة وتشغيل للقوات من البداية ونقل المعركة إلى أرض العدو ــ إقرأ المقاومة ــ تجبر العدو على التعامل بكامل قوته لصد هذه المناورة . 

بعد هذا التحليل وتلك المقدمات، هل يمكن أن نقول أننا أمام عقيدة قتالية وضعها هذا (الفيلسوف) يمكن أن نطلق أسمه عليها فتصبح "عقيدة كوخافي " ؟ لن نطيل النقاش وسوق الأدلة على صلاحية هذا الإسم ليطلق على هذه العقيدة، حيث يمكن أن نطلق عليها اسم " عقيدة كوخافي" دون تردد، ولكن ما يهمنا في هذا المقام هو التفكير في كيفية نقض عرى هذه العقيدة والعمل ضمن إجراءات ركنية وتعبوية، تبطل مفاعيلها وتحيلها أثراً بعد عين، أو على الأقل تقلل من آثارها الضارة في طرفنا وتفقد معتنقيها الإيمان بها، إن هذه (العقيدة ) في تشبيه أهل الطب هي الداء الذي نبحث له عن دواء، فكما أننا نبحث عن مضادات حيوية لرفع مناعة الجسم وصونه من أن يهاجم من الفايروسات والجراثيم ؛ فإننا بحاجة إلى مضاد حيوي يقف سداً في وجه هذه (الجائحة) التي يمكن أن تشن هجومها علينا في أي وقت في المستقبل، نحن بحاجة إلى " Anti Kochavi Doctrine " وهو ما سنتطرق له في هذه المقالة بما يسمح به المقام والمقال، فنقول: إن الجزء المهم الذي يجب أن يخضغ للدرس والتحليل ووضع الإجراءات لمواجهته هو الجزء الأخير في هذه العقيدة ألا وهو المناورة البرية وتوصيفها والإجراءات التعبوية المطلوبة لنجاحها والهدف الرئيسي منها، لذلك سنعيد توصيف ما يريد العدو في هذا الجزء لنخلص إلى كيف يمكن أن نمنعه من ذلك وما هي إجراءات المواجهة الناجعة لصده وإقلال خطره، ففي توصيف المناورة قيل عنها أنها يجب أن تكون سريعة ومميتة وعدوانية، وفي الإجراءات قيل أنها: حشد وتعبئة سريعة وتشغيل للقوات من البداية ونقل المعركة إلى أرض العدو وفي الهدف النهائي قيل أنه إجبار العدو ــ إقرأ المقاومة ــ على التعامل بكامل قوته لصد هذه المناورة . أما في ( المضادات الحيوية ) المطلوبة فيمكن وصف الآتي ليناسب كل جزء من أجزاء هذه ( الجائحة )، فلمواجهة:

أولاً: سرعة الحشد وفورية التشغيل ونقل المعركة: حيث أن المناورة البرية تبدأ بعملية الحشد والتعبئة، يجب بدء العمل من هناك، بحيث يتم منع مختلف التشكيلات من أخذ حريتها في عمليات الحشد والتعبئة كمّاً ونوعاً وإعاقتها، الأمر الذي يمكن أن يتم عبر الإجراءات الآتية: 

  1. عمليات رصد خطوط المواصلات باتجاه مناطق العمليات والمسؤولية المختلفة: إن عملية رصد حركة النقل العسكرية والمدنية على شبكة مواصلات العدو الرئيسية داخل الأرض المحتلة وباتجاه مناطق العمليات العسكرية يمكن من خلالها معرفة طبيعة التشكيلات الجاري تعبئتها من حيث الصنف و الاستعداد وأماكن التوقف وأخذ الاستراحات أو إجراء التنسيقات الإدارية المرتبطة بعمليات النقل وأولوية الحركة، وهذه المعلومات يمكن أن تستثمر في عمليات استهداف هذه القوات بالنار من مختلف الصنوف والمدَيات . 
  2. تلويث مناطق الحشد بالنار من مختلف الصنوف والأعيرة: كما تساعد عمليات استهداف مناطق الحشد بمختلف صنوف النار القوسية والمباشرة على تلويثها، وجعل إتمام إجراءات الحشد وما يرافقها من عمليات تذخير وشرح وتوزيع مهام على القوات في تلك المناطق، أمراً محفوفاً بالمخاطر، ويطيل هذه العملية زمانياً، الأمر ــ إطالة وقت عملية الحشد ــ مطلوبٌ في ذاته للمقاومة،كونه يوفر وقتاً لها تستغله في تعبئة قواتها ونشرها والاستعداد لحركات العدو المستقبلية . 
  3. محاولة المعرفة المسبقة لمناطق الحشد والتعبئة الاعتيادية للتشكيلات في غلاف غزة والعمل على تلويثها بالنار ما أمكن: إن عمليات الرصد الدائم في وقت السلم والحرب، تتيح للمقاومة فرصة التعرف على أماكن الحشد المعتادة لقوات العدو العاملة في منطقة المسؤولية أو العمليات، هذه المعرفة المسبقة من الممكن أن تُستغل في علميات تلويث هذه المناطق بالنار الأرضية والعبوات الناسفة التي تفعّل عند الحاجة عن بعد، بهدف إفقاد قوات العدو الثقة في الجغرافيا وإجباره على البحث عن أماكن حشد جديدة وتجهيزها إدارياً وأمنياً، الأمر الذي يتطلب منه صرف جهود وأوقات هو في أشد الحاجة لها . 
  4. منع تشكيلات العدو من إتمام التنظيم القتالي الذي يسبق عمليات الفتح والانتشار: كما يجب على قوات المقاومة إدامة الضغط الناري على العدو في مناطق الحشد من أجل منعه من إتمام عمليات (التنظيم القتالي) المطلوبة للقوات قبل التحرك باتجاه مناطق العمليات، أو إجباره على التحرك قبل إتمام هذه العمليات، الأمر الذي يجبره على الدخول إلى منطقة العمليات مفتقداً لتنظيم قتالي محدد المهام معروف الأهداف ومناطق المسؤولية، حيث سينعكس هذا الاضطراب بشكل سلبي على عملية القيادة والسيطرة المطلوبة أثناء تنفيذ المهام والواجبات . 

ثانياً: سرعة وإماتة وعدوانية المناورة: أما فيما يخص إجراءات الحد من سرعة وعدوانية وفتك هذه المناورة فيمكن تصور الآتي من الإجراءات: 

  1. تلويث المعابر الموصلة ومسارات التقرب القتالية للعدو بمختلف صنوف النار: على قوات المقاومة معرفة وتحديد محاور تقدم العدو ومعابره الموصلة ومسارات تقربه باتجاه أهدافه الأرضية، والعمل على تلويثها بمختلف صنوف النار القوسية والمباشرة والمعدة مسبقاً، من عبوات ونسفيات بهدف إيقاع أكبر كم من الخسائر البشرية والمادية في صفوفه، و/أو إبطاء سرعة مناورته أو حرفها عن مسارها المعد مسبقاً وسوقها باتجاه مناطق قتل معدة من قبل المقاومة . 
  2. تكثير نقاط الاشتباك مع التشكيلات المناورة لإجبارها على بعثرة قدراتها: كما أن زيادة عدد نقاط الاحتكاك مع العدو، تجبره على تقسيم وتشتيت قدراته وعدم حشدها وتركيزها على الأهداف، كما أن هذا الأمر يخفف من كثافة نار العدو أثناء التقدم وتجبره على زيادة جهد عمليات القيادة والسيطرة والدعم الإداري أو ما يعرف بخدمات الدعم القتالي لقواته في مناطق العملياتوالمسؤولية . 
  3. الاشتباك مع القوات المناورة ضمن مديات أمن سلاح الإسناد المعادي بمختلف صنوفه: يعتمد العدو أثناء مناورته على تليين الأهداف والقصف التمهيدي العنيف، محاولاً تدمير قواعد نار المقاومة وإلحاق أكبر كم من الخسائر البشرية فيها، فإن تم تجنب الاحتكاك مع العدو والظهور أمامه أثناء هذه العمليات، وصبرت تشكيلات المقاومة إلى حين تقدم قوات العدو واشتبكت معه من مسافات قريبة تحيد قدرات الإسناد الناري له ولسلاح جوِّه ومدفعيته، فإن المقاومة ستقلل خطر نار العدو وسلاح إسناده، مما يفقده ميزة يتفوق بها على المقاومة تعد من أكثر قدراته فتكاً وإلحاقاً للخسائر في صفوف المقاومة . 
  4. إجبار القوات المناورة على ( خربطة ) التنظيم القتالي الذي تخوض فيه المعركة: من الأمور التي تزيد من فتك قوات المناورة وزيادة خطورتها ؛ عملها ضمن (تنظيم قتالي) مصمم أصلاً ليراعي طبوغرافية منطقة العمليات وطبيعة الأهداف الأرضية المراد العمل عليها، وفي حال تم ( خربطة ) هذا التنظيم القتالي من خلال استهداف التشكيلات المناورة أثناء حركتها وحشدها ؛ فإن هذا سيقلل من خطرها ويحد من سرعتها وفتك نارها . 
  5. رصد النشاط المعلوماتي للعدو في داخل مناطقنا وعلى خط الجبهة: كما يصاحب عمليات المناورة المعادية جهداً استخبارياً، بشرياً وفنياً من أجل توجيه وإدارة قوات المناورة، ولا يقتصر هذا الجهد على مناطق حشد العدو أو جغرافية مناورته ؛ وإنما يشمل الجبهة الداخلية للمقاومة حيث يزيد نشاط عملاء العدو ومصادره البشرية في مناطق المقاومة، فضلا ًعن تشغيل قوات رصد ميداني معادي لتأمين الاحتياج المعلوماتي لقوات المناورة المعادية، إن عمليات  الرصد لهذه النشاطات والحد منها يساعد بشكل كبير في تقليل كفاءة وجاهزية قواتالمناورة، وبذلك تقل خطورتها على المقاومة وتشكيلاتها العاملة في مناطق العمليات والمسؤولية . 

ثالثاً: وللحدّ من دفع المقاومة بكامل قوتها لصد المناورة المعادية: حيث أن الهدف من كل تلك الإجرءات التعبوية المعادية هو إجبار قوات المقاومة على كشف قدراتها بمختلف صنوفها من أجل التصدي لمناورة العدو، فيصبح التعامل معها ــ قوات المقاومة ــ واستهدافها وتحييد أكبر كم منها ممكناً وسريعاً، ما يمكن تفاديه عبر الآتي من الإجراءات: 

  1. المعرفة المسبقة بمحور الجهد الرئيسي للعدو: إن المعرفة المسبقة بمحور الجهد الرئيسي لعمل قوات العدو يساعد المقاومة في تركيز قواتها واستخدامها بكفاءة عالية، دون تعريضها لمخاطر أو تهديدات دون طائل، ومعرفة الجهد الرئيسي للعدو ممكن من خلال عمليات الرصد الميداني البشري والفني، ومن خلال معرفتنا بما لدى العدو من معلومات عن مراكز ثقلنا وأصولنا القتالية، فهذه المعرفة تساعد في تحديد أهداف العدو من المعركة وتوزيع جهودها ومراحل تطور المواقف القتالية فيها .
  2. عدم الانسياق والتماهي مع بعض الجهود التي يمكن أن تكون خداعية حتى لو حملت قيمة رمزية عالية: كما يقوم العدو بنشر بعض الأهداف ذات القيمة الرمزية والمغرية التي يتطلب التعامل معها كشف بعض قدرات المقاومة، إن مثل هذه ( الأفخاخ ) يجب أن لا تنطلي على المقاومة ولا أن تدفعها لصرف انتباهها عن محور الجهد الرئيسي للعدو، ويجب عليها أن تتعامل معها بالقدر المطلوب الذي يحد من تهديداتها والمخاطر الناتجة عنها، باستخدام المناسب من القدرات القتالية والنارية، وتحجيمها ومنعها من التطور أو  التعاظم . 
  3. الاشتباك الناري مع العدو وتليين أهدافه قبل الاحتكاك بها مباشرة: كما أن الاشتباك الناري مع العدو أثناء الحشد والتعبئة وتليين أهدافه بالمناسب من الوسائل قبل الاحتكاك بها، يوفر للمقاومة فرصة الاحتكاك بقوات مناورة العدو بأقل القدرات وانسبها، مراعاةً لأصل الاقتصاد بالقوة المطلوب من أجل حشدها ــ القوة ـ في المكان والزمان المناسبين . 

كان هذا ما يتسع له المقام في هذا الموقف، على أننا يجب أن نلفت الانتباه إلى أن ما جاء في هذه المقالة ؛ يجب أن يخضع للدراسة والتحليل من قبل أهل الاختصاص لتحويل هذه المعطيات إلى إجراءات وطرق عمل تعبوية تنعكس في مناهج وأساليب التدريب وأدلة التخطيط العملياتية . 

عبد الله أمين 

14 06 2021



جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023