بقلم: عبد الله أمين
الخبير العسكري والأمني
06- 09- 2021
ينشأ مع كل حالة احتلال لأرض، ما يرتبط بهذه الحالة من أدبيات وأنماط حياة وأعراف مجتمعية، ومن أشد هذه الأدبيات خطورة تلك التي تؤسس لحالة تفكير مجتمعي يتولد عنه سلوك عملي قبالة الاحتلال والمحتل، ينبني عليه ــــ السلوك العملي ـــ إما حالة مقاومة أو حالة مهادنة ومساومة، ومن هذه الأدبيات أو الجدليات؛ الثلاث التالية والتي تعد من أهم هذه الجدليات:
- جدلية تقدم تأمين الحاجات الحياتية للناس على ضرورات المقاومة والتحرير:
عندما ينهي المحتل احتلاله ويحكم قبضته على الأرض والشعب، تنشأ حالة رفض لهذا الاحتلال وهذه السيطرة ــ بغض النظر عن حجمها ونوع سلوكها ــ وفي نفس الوقت تبدأ حالة من الصراع الداخلي بين رافضي هذا الاحتلال وبين شريحة من بني جلدتهم انطلاقWا من مقولة: كيف نطلب من الشعب أن يشارك أو أن ينخرط في عمليات مقاومة لهذا المحتل، وهو ــ الشعب ــ لا تتوفر له أبسط مقومات الحياة الكريمة؟ وكيف نطلب منه أن يقدم أولوية مقاومة المحتل على أولوية تأمين قوت يومه وما يسند به أوده؟ ويأخذ النقاش والجدال مداه، ويُرى ويُقرأ عبر كافة وسائل الإعلام، المقروءة والمسموعة، فضلاً عن وسائل التواصل الاجتماعي التي تنشر هذا الحوار نشر النار في الهشيم، وهذا نقاشٌ يستفيد منه المحتل في معرفة توجهات المجتمع وخطوطه الحمر ونوايا قادته، ما يمكن أن يشكل من خلاله وسائل ضغط على ساسة البلد ورجال الحكم فيها، مستخدماً هذا المحتل ما توصل له من معلومات عبر هذه النقاشات، في عملية إدارته للمشهد وتوليد روافع ضغط من هذه النقاشات والاختلافات تستخدم في احكام سيطرته على المجتمع والأرض.
- جدلية عدم قدرة مشاركة عموم الشعب في جهود المقاومة التحرير ما لم يتم تأمين حاجاتهم اليومية ومتطلباتهم الحياتية:
الجدلية الثانية التي تنشأ مع وجود احتلال؛ جدلية قائمة على أننا إن كان ولابد لنا من أن نستخدم ونستعين بالشعب في عمليات المقاومة ودحر المحتل؛ فإننا كمقاومة لا بد من أن نؤمن لهم حاجاتهم اليومية ومتطلباتهم الحياتية، الأمر الذي يُدخِل على جدول أعمال المقاومة وأولوياتها أموراً قد تعيق وتثقل وتبدد الوارد، التي هي في الأصل قليلة ، وقد لا تفي بمتطلبات عمل المقاومة، فضلاً عن أن تلبي مثل هذه الحاجات وجعلها أولوية؛ يتطلب من المقاومة إنشاء أجسام وهيكليات تثقل الجسم وتزيد من مستوى احتمال انكشافه للأعداء، وامتصاص هذه الأعمال للكوادر البشرية التي تحتاجها المقاومة أشد الحاجة للاستثمار والتفعيل في أماكن أخرى، أو فيما يخدم أصل الهدف من المقاومة، والمتمثل بمقارعة العدو والتصدي لمخططاته بالقوة الخشنة كأولوية.
- جدلية منح المحتلة أرضهم تسهيلات حياتية وإدارية تساعد في امتصاص غضبهم وإشغالهم عما هو أهم وأجدى:
هذه الجدلية تنشأ في صفوف المحتل؛ على اعتبار أنه إن كان يقارع أناساً لا يملكون ما يخسرون، وليس لديهم ما يخشون عليه وظهورهم للحائط، فإنهم ــ الناس ــ سوف يستميتون في القتال والمقاومة، وأن ما سينزل بهم من خسائر لا يمثل أي عنصر ضغط عليهم، فتخوض مختلف مستويات العدو، السياسية منها والعسكرية والأمنية وغيرها جدالاً ونقاشاً داخلياً للمفاضلة بين ترك المحتلة أرضهم بلا خدمات أو مقومات وتسهيلات، أو إعطائهم منها ما يسهل عليهم عيشهم، وما يمكن أن يشكل أمراً يخشون حرمانهم منه إن هم قاوموا المحتل ومخططاته، فتتحول هذه (المنح) إلى روافع ضغط تستخدم عند الحاجة وتستدعى عند الضرورة.
هذه تقريباً أهم ثلاث فرضيات تصاحب حالة الاحتلال، وتبقى مجال بحث بين العاملين في مجال مقاومة المحتل بمختلف مشاربهم وتخصصاتهم، حتى أن هذه الفرضيات الثلاثة تشكل قاعدة نقاش رئيسية لمن يتزعمون الدعوة للمقاومة السلمية أو المقاومة اللاعنفية والتي يعد "جين شارب " من أهم منظريها والداعين لها كوسيلة تغيير وأداة فعل ضد المحتل، يرى أنها أجدى وأفضل من المقاومة الخشنة والمواجهة العسكرية. إلا أن هذه الورقة وكاتبها، وبعد تلك المقدمة التي اشتملت على تلك الفرضيات يعتقد أنه في حالة الاحتلال، فإن التثوير مقدم على التعمير، ويمكن أن يساق في سبيل إثبات ذلك الكثير من الأدلة والبراهين، ولكن نكتفي بذكر اثنين منها يعدان أهم ما يمكن أن يساق للدلالة على أن التثوير مقدم على التعمير، وهذه البراهين هي:
- إن كل ما سيتم تعميره ـــــ مادياً أو إدارياً ـــ سيكون تحت سيطرة العدو:
فالعدو عندما يحتل الأرض ويستبيحها لا يقف في وجهه عائق ولا يمنعه من فعل ما يريد مانع، وهذه البنى التحتية والخدمات المجتمعية، الإنشائية منها والإدارية ستكون تحت سيطرة هذا العدو، فيتحكم في وتيرة وسرعة إنشائها وطرق تشغيلها، وكيف ومتى ولمن ستشغل ومن ستخدم، وسيكون العاملون فيها في مكانة وكلاء عند أصلاء، ينفذون أجندته ويريحونه من عناء المتابعة والمقارعة اليومية للناس وهموهم ـــــ احتلال ديلوكس ـــــ ، كما أن هذه المنشآت والإدارات بعد أن تُشغل من قبل أهل البلد، ستشكل عامل تجميل وتحسين لصورة هذا المحتل، يعرضها للداخل والخارج للتدليل على شرعية احتلاله وقانونية سلوكه وحضاريته.
- ما ( يجود ) به المحتل من تسهيلات يعد سيفاً ذا حدين: كما أن ما ( سيجود ) به المحتل من تسهيلات وخدمات ستشكل في مكان وزمان ما رافعة ضغط يضغط بها بشكل مباشر على البيئة الحاضنة للمقاومة لمقايضة هذه الخدمات بالتضييق على المقاومة والعاملين فيها والداعمين لها، أو أنه سيحقق ما يريد بطريقة غير مباشرة عندما يصّور للناس وأهل البلد أن ما تقوم به المقاومة من فعل مقاوم للمحتل إنما هو سبب حرمانهم من تلك الخدمات والتسهيلات التي تعودوا عليها أو سهلت لهم الحياة وحدَّت من شظفها، فتتحول البيئة الحاضنة للمقاومة إلى أداة ضغط غير مباشر يضغط بها المحتل على المقاومة تحقيقاً لما يريد ويصبو له.
أمام هذا الموقف المعقد والمليء بالألغام، ما هو السبيل لدحض هذه الحجج، والدفع بفرضية تقدم التثوير طلباً للتحرير، على فرضية التعمير التي تتطلب الخنوع والتخدير؟ نعتقد أن المقترحات الآتية تساعد في الإقناع وجعل فرضية التثوير مقدم على التعمير ترجح على فرضية التعمير مقدم على التثوير:
- وجود حليف مؤتمن مجرب قادر على الذهاب في شوط دعم المقاومة إلى آخره: إن وجود مثل هذا الحليف من الأمور المهمة والمساعدة والرئيسية في جعل بيئة المقاومة تتقبل فكرة تقدم التثوير على التعمير، كون مثل هذا الحليف سوف ينهض بأعباء تحمل أكلاف بناء الأهم في منظومة الحياة اليومية وما هو ضروري منها، كما أنه قادر على القيام بكثير من الأدوار التي تساعد في تثبيت المجتمع وأبنائه عبر تقديم الخدمات الحياتية والضرورية لهم عبر مؤسساته وبناه التحتية الخدماتية والاجتماعية، التي قد ينشئها في جغرافيات قريبة من الأرض المحتلة أو داخلها تحت أغطية وسواتر تناسب الزمان والمكان.
- تأمين المتطلبات الحياتية الأساسية للناس وعموم الشعب: كما يساعد في تقدّم معادلة التثوير؛ عدم غض الطرف بالكامل عن متطلبات المجتمع وحاجاته الأساسية، لذلك على حركات المقاومة أو التحرير أن تنهض بمسؤولة تأمين المتطلبات الحياتية الضرورية لأبناء شعبها وبيئتها الحاضنة، وفقاً لسلم أولويات يراعي المهم والحيوي والذي لا يمكن أن تستقيم الحياة دونه، من غذاء ودواء وخدمات، فتأمّنه وتسهر على حمايته، دون أن تنشغل في توافه الأمور وكماليات الحياة التي تعد من الجماليات وليست من الضروريات بل من المثقلات والمعيقات.
- منع تشكل طبقة مستفيدة من الاحتلال: كما يساعد أيضاً في تقديم معادلة التثوير؛ منع تشكل طبقة مستفيدة من الاحتلال وتسهيلاته، كون هذه الطبقة ستشكل رأس الجسر الذي سيخترق منه وعبره المحتل باقي طبقات المجتمع وشرائحه، إن هذه الطبقة من المنتفعين والمستفيدين وتجار الحروب ما هي إلا حصان طروادة الذي يخترق به وعبره المحتل المجتمعات والشعوب، وهذه الطبقة هي التي ستحمل سيف الدفاع عن مصالح المحتل، تحت ذريعة حماية مصالح الشعب، والشعب ومصالحه منهم ومنه براء.
- تقديم دليل عملي على أن ما يقدمه المحتل ليس منّة منه وإنما هو جزء يسير من حق مغتصب:
كما يجب العمل على نشر الوعي وتقديم المعلومات وسوق البيانات، للقول للناس أن ما يقدمه المحتل من تسهيلات وخدمات، ليست منّةً منه ولا كرم أخلاق نزل عليه، وإنما هي من مسؤولياته كجهة احتلال يلزمه القانون الدولي بتقديمه بلا حمد من المحتلة أرضهم ولا شكوراً، كما أنه يجب تنبيه المجتمع إلى أن هذا المحتل مهما قدم، فإنه لا يقدم إلا كما يقال (من الجمل أذنه )، فقد احتل البلاد واستولى على مصادر الخير والرزق، ومهما قدم، فإنه لا يقدم إلا النزر اليسير مما سرق ونهب وهرّب.
- تقديم النموذج الحي من قبل قوى المقاومة على المشاركة في المعاناة:
ومن الأمور التي تساعد على إقناع المجتمع والبيئة الحاضنة بصوابية طرح المقاومة من أن التثوير مقدم على التعمير؛ تقديم النموذج الحي من قبل المقاومة ومسؤوليها وكوادرها على مشاركة هذه الحاضنة شظف عيشها وصعوبة حياتها، فلا تنعم المقاومة ومنتسبوها برغيد العيش وهانئ الملبس والمشرب والمأكل، وتطلب من أهلها وناسها تحمل الأعباء والمتاعب! فإن كنت تريد أن تكون إمامي فعليك أن تكون أمامي، وعلى المقاومة وقادتها ومنتسبيها أن يقولوا للناس تعالوا، لا أن تقول لهم، اذهبوا !!!
- إعادة ترتيب الأولويات السياسية والمجتمعية: آخر ما يمكن أن يقال في هذا التوصيات أو الملاحظات هو؛ إعادة ترتيب مصفوفة الأولويات السياسية والمجتمعية لدى بيئة المقاومة وحاضنتها الشعبية، فالاحتلال حالة استثنائية، تتطلب أنماط حياةٍ وسلوكٍ استثنائية، تستدعي إعادة التعريف والترتيب للمصالح والأولويات والأهداف الذاتية والمجتمعية، إلى حين انكشاف هذا الظرف وزوال تلك الغمة.
نعتقد أن ما ورد من جدليات وفرضيات وما ختمنا به من توصيات ومقترحات؛ تستأهل أن تكون محل بحث من أهل الاختصاص، فما نحن في صدده من احتلال يفرض علينا وعلى بيئتنا الحاضنة ملاحظة هذه الجدليات والتسديد والمقاربة أثناء التعامل مع واقع كواقع بلادنا المحتلة، التي يراد لنا ولشعبنا أن نقر فيها بأن التعمير مقدم على التحرير، أو أنه يمكن أن نخوض في غمار التعمير قبل انجاز التحرير، وهنا قد لا يقتصر مصطلح التعمير على الشق المادي الإنشائي منه، وإنما قد يتعداه إلى التعمير السياسي والهيكلي والإداري الذي ليس في مكانه ولا زمانه، بحيث يثقل الجسم ويستنزف القدرات البشرية والمادية دون أن يعود بطائل على أصل هدف حركات المقاومة أو التحرير.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.