بقلم: معتصم سمارة
باحث وكاتب في الشأن الإسرائيلي
يبدو أن الستار قد أسدل على أحداث نفق الحرية في جلبوع مع اعتقال آخر أسيرين من الأسرى الستة أبطال القصة، لكن ارهاصات الحدث الأشهر على الساحة الفلسطينية منذ بداية العام وأصداؤه ما زالت تتردد، فقد تصدر خبر تحرر الأسرى الستة بهذه الطريقة الهولويدية عناوين الأخبار على معظم شاشات التلفزة العاليمة والمحلية لأيام عديدة، وبقيت القصة حديث رواد وسائل التواصل الاجتماعي طيلة الفترة الماضية، ولكن الاهم أن سيناريو التحرر تحول إلى مصدر الهام لمعظم الباحثين والكاتبين في شأن الصراع العربي الصهيوني، وليس في شقه الأمني فقط، بل يتعدى ذلك إلى العديد من مجالات الحقل المعرفي، وسيسعى الكتاب والباحثون إلى استلهام الدروس والعبر كل حسب اهتمامه ووجهة نظره والزاوية التي رأى منها هذا الحدث.
إن من ينظر إلى الأمر بصورة أعمق وأوسع سيجد حتمًا أن الحدث أكبر من مجرد انتزاع ستة ابطال لحريتهم من بين انياب الاحتلال، على ما في الأمر من بالغ الاهمية.
إن مجرد القرار بالتفكير في الهرب ومن سجن جلبوع بالذت هو قمة التحدي واختيار أصعب الأهداف وأبعدها منالاً وسلوك أكثر الطرق وعورةً، ولكنه في ذات الوقت قرار يكشف عن مدى عمق الإيمان والرغبة في البحث عن الحرية والحق في امتلاكها اياً كانت الظروف صعبة او مستحيلة، وهو أيضا يشير إلى مدى الاستعداد لدى أبطال القصة لدفع الثمن مهما كان باهظاً، فلا بد أنهم كانوا يدركون- بحكم خبرتهم الطويلة في التعامل مع مؤسسة الاحتلال الأمنية- أن احتمال القبض عليهم أثناء الحفر أو في لحظة خروجهم من النفق أو بعد ذلك هو احتمال وارد جداً، ومع ذلك كان الاصرار والتصميم لديهم أقوى من كل هذه المخاوف والمخاطر معاً.
إن اعتقال الإخوة الأحرار خلال وقت قصير من تحررهم هو لا شك انجاز للاحتلال، ولكنه في ذات الوقت لا يقلل أبدًا من حجم الضربة الأمنية الموجعة التي تلقاها هذا الكيان بخروجهم الناجح وبهذه الطريقة المعجزة، فقد مثل نفق الحرية انتصاراً حقيقيًا لأفراد ستة عُزل أمام دولة تتنفس مؤسساتها الأمن كما يتنفس الناس الهواء، وهو انتصار لا يمكن الغاؤه أو التقليل من شأنه رغم إعادة اعتقال الأسرى، حيث كان فعلهم هذا بمثابة ممارسة فعلية لكي الوعي ولكن من السجين على السجان، في لحظة واحدة انهارت كل نظريات الامن والتحكم والسيطرة التي طالما تباهى الاحتلال الصهيوني بتصديرها الى العالم، لقد فشل العقل الأمني الصهيوني فشلاً مدوياً رغم ما يمتلكه من امكانات وخبرة طويلة أمام الفرد الفلسطيني المعتقل الذي آمن بحقه في الحرية وبقدرته في الحصول عليها.
ستبقى قصة النفق الشهير شاهدةً على أن أهل الباطل مهما امتلكوا من قوة وأسباب مادية، فانهم عاجزون عن تكبيل ارداة المظلوم وسعيه الدؤوب نحو استرداد حقه إذا أراد ذلك، فلا بد في النهاية للقوي من نقطة ضعف وللضعيف من نقطة قوة، وإذا ما اصطدمت نقطة قوة الضعيف مع نقطة ضعف القوي فان الغلبة والنصر حتماً للأول، وهذا ما حصل في قصتنا، حيث امتلك الأسرى الإرادة والعزيمة وطول النفس، إضافة إلى العامل الأهم وهو الوقت؛ بينما أصيب عدوهم بالترهل والروتين والغرور القاتل فكانت النتيجة التي افقدت هذا العدو صوابه.
لقد أكد نفق الحرية أن المزاج الشعبي العام ليس لدى الفلسطينيين فقط، بل لدى الشعوب العربية وكل أحرار العالم، هو مع خيار المقاومة وانتزاع الحقوق بالقوة، فقد حظي الأسرى وقصتهم البطولية بتعاطف شعبي منقطع النظير، وتصدروا المشهد دون منازع، ولو أن الضفة الغربية غير مستباحة من الاحتلال من ناحية، وحاضنة مقاومتها مفككة وخارجة عن الخدمة من ناحية أخرى لكان المشهد قد انتهى بصورة مختلفة تمامًا، أو ربما على الأقل حظي الأحرار الستة بفترة أطول بكثير في الحرية.
لن يتوقف نفق الحرية أن يكون درسًا ملهمًا لكل أصحاب نظريات المقاومة،أين ما كانوا، ومهما كانت امكاناتهم المادية ضعيفة، وبأن الصبر والاصرار هي عدة المقاوم الأساسية، وصدق الشاعر حيث قال: أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلج.
وفي المقابل شكل الحدث درساً قاسياً لمن يريد أن يتعظ من أصحاب نظرية الحياة مفاوضات والتسليم بتفوق الإحتلال في المجالات المادية أو الاستسلام لميزان القوى العالمي المختل دوماً لصالح الاحتلال أو القبول بمقولة "أن الكيان دولة لا تقهر"
لو نطقت رمال سهل جلبوع لقالت أن الحياة مقاومة وصبر وتصميم، وأن القيود مهما طال عليها الزمن الى زوال، وأن الوحدة الوطنية هي ربما اللبنة الأولى التي تبنى عليها كل مشاريع بناء الدولة أو تحرير الاوطان، ولو نطقت ملاعق السجن لقالت: أن الانسان لا يعدم الوسيلة، وستبقى الأيام تعلمنا شيئًا فشيئًا عن خبايا هذه القصة وتفاصيلها الملهمة لكل صاحب همة وإقدام.