الإبداع هو الحرية
بقلم: جمال الهور
"أبو تقي"
23 يناير - 2022م.
تظل الكلمات رسومًا منقوشة على لوائح وجدر، أو مصفوفة في مخطوطات أو مطويات، أو محفوظة عن ظهر قلب في عقولٍ وأفهام تورثها جيلًا بعد جيل، هكذا تُخلَّد الكلمة نظريًا، وبالتطبيق وممارسة المحتوى والمضمون، إنما تخلدها التجربة أو التجارب المتعاقبة عليها، وهكذا تصير فكرة حية حاضرة تأخذ حيزها ومكانتها في صناعة الوقائع والأحداث التي تشكل حواضر البشر ومستقبلهم.
لكن شيئًا ما في الكلمة أو في "الفكرة" تلك يموت بقصد أو غير قصد، وذلك عندما تنطقها الألسن كحشو بلاغي غنائي، وزينة لخطاب حماسي، أو عندما تسطرها الأقلام لسد فراغات ما بين الجمل، ولكن بغياب حقيقي للروح التي تسري في تلك الكلمة، وتلك الروح لا تغيب، وإنما تغيب بفعل سلبي يسقط عليها؛ فيسلب الكلمة روحها، ويفرغ الفكرة من جوهرها، فيحيلها إلى شعار ميت.
الإبداع هو الحرية، هذا لا يعني أن غير المبدعين هم عبيد، وإنما يعني أن كل حر غير مبدع فهو يعيش حالة من عبودية التقليد، وعليه من الواجب أن يناضل من أجل أن يتحرر من هذا القيد الثقيل، ويعني أيضًا أن كل حر لا يسعى إلى الإبداع إنما يساهم في عملية التحجر الفكري السائدة، ويساعد في تسييل الجهالة وتسويقها.
والمقصود بالإبداع الفكري ليس فقط على مستوى الفكر النظري، وإنما نقصد به كل اجتراحات العقل، وما ينتج عنه من فعل نظري وعملي، وخلق كل جديد فريد على كافة المستويات النظرية والمادية.
ونقصد بالجهالة وسيولتها، أي عملية التوقف بانبهار أمام ما وصل إليه السابقون، وقبول العيش في ظلالهم وإسقاط زمنهم على واقعنا بطريقة جبرية تخنق الأنفاس.
وأيضًا من الجهالة الكبرى الوقوف عند ما وصل إليه الآخرون، والتمسك به وتلقفه بنوعٍ من القداسة الكاثوليكية التي لا فكاك منها، ونقله بطريقة النسخ واللصق من دون تمييز ولا تنفيس ولا مفاصلة أو تفصيل، وكأن وقائع البشرية متطابقة، وكأن طباعهم واحدة، وكأن أخلاقهم متجانسة، فما يصلح أن يكون سلوكًا ومنهجًا في مغارب الأرض فإنه يصلح أن يكون أصلًا لمشارقها، والعكس.
ويا ليت هذا العكس معمولٌ به في زماننا هذا، لقلنا إن البشرية أنصفت نفسها في الظلم، فلا ضير أن يعيد شرق على غرب ولا شمالٌ على جنوب، لكن ما يجري "بحسب مدنية العصر" هو تفرد قطب في السمو والمدنية والعرق النظيف المميز، أو ما يسمى بالجملة "إيجابيات العنصر البشري القوي أي دول المركز"، وتفرد القطب الآخر بالدنو والتخلف والعرق القذر، وهو ما يطلق عليه بالجملة "سلبيات النوع البشري الضعيف أي دول الأطراف".
إذًا من الجهالة الحجر على العقل، سواء بالرضى المتمثل بالقبول بالتقليد، أو بالقسر المتمثل بالمنع بالقوة وإلزام العقل بمبدأ التبعية على أساس أن الإبداع والممارسة محتكرين لجهةٍ ما.
وإن كان الإبداع هو الحرية، فالحرية هي أم الإبداع، ولتفكيك هذه المنظومة الفكرية وتبسيطها، أطرح "الحركة الأسيرة في السجون الصهيونية" كحالة تتمثل فيها هذه المنظومة الفكرية بشكل واضح وجلي، وتتجسد مضامين الفكرة في تفاصيل مركباتها، وتُعاش بالمعنى وبالروح في أفعال ونشاطات أبناء الحركة الأسيرة.
ففي هذه الساحة القسرية والمحاصرة بكل أدوات السيطرة والتحكم، والخاضعة لكل أشكال التتبع والمراقبة والمنع والملاحقة من قبل أخطر مؤسسة قمعية وعنصرية استعمارية عرفها التاريخ، في هذه الساحة يظهر الإبداع كشاهد قوي ونشط يدلل على أن الأسرى يعيشون حالة من الحرية تعطي تفسيرًا واضحًا بينًا لمصطلح "الإبداع هو الحرية".
فعندما يجترح الأسير بإصراره وتجربته الأدوات التي تجعل من زنزانته الضيقة والمظلمة محطة اختراع لكل ما يمكنه من العيش، ومن تذليل الصعاب والعقبات التي تعترض مسار حياته اليومي، وعندما يجعل من زنزانته محطة للتعلم والتدراس وتطارح الأفكار، ومفرزة للإبداع الفكري والأدبي والفلسفي، الذي يسهم في فهم الحقبة التاريخية التي تعيشها القضية الفلسطينية وملابساتها شديدة التعقيد بفعل الاستعمار الإحلالي، الذي يحكم قبضته على كل مفاصل الحياة "الروحية، والدينية، والسياسية، والاقتصادية، والجغرافية، والديموغرافية، والاجتماعية"، ويسيطر ويتحكم في أجوائها وفضاءاتها "الجوية والبحرية والبرية".
ويسهم بإنتاجه الفكري في فهم الصراع الفلسطيني الصهيوني، ومناقشة أدوات المقاومة الفلسطينية في مواجهة جملة الأدوات والمفاهيم الصهيونية الاستعمارية، بدءًا من التغول والسيطرة على الأرض، والهجرة الاستيطانية المستمرة والمتفشية بشكل متسارع وخطير قَلَبَ الموازين الديموغرافية على الأرض، ومفهوم التطهير العرقي وتطبيقه بشكل عملياتي وفعلي ضد أصلانيّي البلاد، ومفهوم الأبارتهايد الذي يفسر ويشرح سياسات الاحتلال العنصرية.
ويسهم بإنتاجه الأدبي في كتابة الرواية، ويعيد صياغتها بأقلام الحقيقة والأحقية التاريخية والحضارية والإنسانية، وينشلها من حفر التشويه والتضليل والتحريف الممنهج، الذي قامت به أقطاب الصهيونية على مدار أكثر من قرن ونصف من الزمان.
وهذا الأسير يسهم في إحياء الذاكرة الفلسطينية التي تصدعت بفعل ثقل الأمر الواقع وجرأته في التسلق على جدار التاريخ، وإحداث خدوش وجروح في جسد الحقيقة، ويسهم أيضًا في لملمة شتات الهوية الفلسطينية، ويعيد صياغتها وفقًا للثوابت الوطنية، وانسجامًا مع ثلاثية تلك الثوابت "الأرض، القضية الجامعة، المقاومة الشاملة حتى تقرير المصير".
هذه الزنزانة التي صنعت بمنهجية حقيرة قذرة، فهي تكون بمثابة بوتقة صهر لإعادة تشكيل دور الأسير "الوطني"، وتحويله إلى دور "وظيفي" يخدم حاجات المستعمر ومصالحه، وصهر الوعي الثوري الحاد والمتمرد، وإحالته إلى وعي حواري وتفاوضي منهك ومستسلم.
زنزانة تكون بوتقة صهر، تصهر في ثنايا صمتها قيمة الزمن والإحساس بالأزمنة، ويمحى من الذاكرة رائحة التراب وغبار الدبكة، وتمنع حضور الرموز وبركة التسابيح وذكريات الطفولة وتراتيل الصبح وفسيفساء المقدسات، وكل الأسماء والمسميات التي تشكل الوطن في إطاره النظري، وبكنفه وجوهره الشامل.
زنزانة صنعت كي تفعل كل ما سبق بحق الإنسان، من أجل تصفيته المعنوية، ثم تُطبِق عليه بكل برودتها وضيقها وعتمتها، وتبدأ عملية إعدامه ببطءٍ ثقيل، حتى يلفظ آخر أنفاس الثورية والانتماء، لكن الأسير "المبدع" وقف لها بالمرصاد، وحرمها من التهامه، وسلبها لذة الانتقام، وذلك عندما حرر الزمن الذاتي والزمن الجمعي من القيود، فأبدع بممارسة الحرية وانتهاجها في آفاق الفكر والأدب والشعر، وحقول السياسة والفلسفة والتاريخ، وترتيل الجغرافيات والحدود بمقاييس الرواية الصحيحة الخالدة.
وعليه، فكم من أسير قيدٍ حر بإبداعه، وكم من حرٍّ طليق وهو أسيرٌ يرزح في قيد التقاعس والجهالة والتبعية المقصودة والمتغلبة عليه، فقط لأنه يرفض منازعة خوفه، وممارسة إنسانيته، وأداء دوره كرجل حقيقي، وكامرأة حقيقية عليهما، محاربة الموت في الذل القهري، وعدم الالتفات إلى نظرية الممكن والمستطاع، فهذه نظرية العاجزين.