الموقف بعد عباس ... قراءة في السيناريوهات والمفاضلات

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

أولا: الموقف:  

في لقاء صحفي للرجل الثاني في التراتبية الهرمية لإقليم غزة -نائب رئيس الإقليم-، ومتولي مسؤولية مكتب العلاقات العربية والإسلامية في اللجنة التنفيذية لحركة حماس، السيد "خليل الحية" مع صحيفة الأخبار اللبنانية في تاريخ 28/06/2022، ورداً على سؤال: هل تملكون تصوّراً خاصاً للسلطة الفلسطينية ما بعد محمود عباس؟ أجاب السيد خليل الحية (أبا أسامة) على هذا السؤال بالجواب التالي: "لا يوجد تصوّر خاص لمرحلة ما بعد محمود عباس، لكن لدينا محددات للموقف، فلن نكون جزءاً من الصراع على السلطة، ولن نتدخل في خلافات أهل السلطة والتحذير من تفككها لا يعنينا، وعند تفككها لن يكون هناك بديل يملأ فراغها، والقوة الموجودة هي قوتنا نحن شعبياً وقوة المقاومة، وهذه السلطة إما أن تكون للناس وداعمة لهم، وإما لا تكون، وهي اليوم عبء على مشروعنا الوطني، والاحتلال يتخذها درعاً في مواجهة المقاومة، ولسنا معنيين بحماية السلطة إذا قرر أركانها الاقتتال عليها، ولن نكون جزءاً من الاقتتال عليها ولا الصدام من أجلها، لكننا نرفض أي شخصية تأتي بـ«الباراشوت» على شعبنا، ولن نتعاطى معها ".

وعليه وتسليماً بما قاله السيد الحية من عدم وجود تصور -مع استبعادنا لذلك واحترامنا لرأي الرجل- لما بعد عباس لدى أكبر فصيل فلسطيني مقاوم؛ فإن هذه الورقة تشكل قراءة لما بين سطور هذا التصريح، وتصوراً للسيناريوهات الممكنة لمرحة ما بعد عباس -شغلنا عباس حياً ويبدو أنه سيشغلنا بعد موته !!- ثم المفاضلة بين هذه السيناريوهات كخيارات عمل يجب التفكير فيها من قبل متصدي الشأن الفلسطيني عموماً، وحركات المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس خصوصاً، مشيرين إلى أمر هام في هذا بين يدي هذه الورقة ألا وهو؛ أن الجهات المتصدية لوضع التقارير والتقادير؛ إن ملكت المعطيات والمعلومات الصلبة حول الموضع محل الدرس والتقدير فإنها تعمد إلى وضع " تقدير موقف " توصف فيه الموقف، وتقرأ مفرداته وما بين سطوره، لتقدير ما يمكن أن يقع في المستقبل، فتحتاط له وتستعد لمواجهته والتعامل معه، وفي المقابل إن لم تكن هذه الجهات مالكةَ لمعلومات أو معطيات كافية لعمل "تقدير للموقف" فإنها تلجئ إلى تقنية عمل "السيناريوهات" فتضع السيناريوهات المتوقعة وتحدد أيها أفضل لها ويعمل في مصلحتها ويحقق أهدافها حال تحققه، ثم تبدأ بترتيب الأوضاع والقيام بالإجراءات ووضع المقدمات المناسبة التي من شأنها تحقيق هذا السيناريو المطلوب والذي يحقق الهدف المرغوب.


ثانياً: السيناريوهات:  

تحت هذا العنوان؛ لن نخوض في كل تفاصيل الفرص والتهديدات الناجمة عن كل سيناريو من هذه السيناريوهات، ولن نتحدث عن المقدمات المطلوبة أو الإجراءات الواجب عملها من أجل تحققها، ولكننا سنذكر أبرز الفرص وأخطر التهديدات الممكنة لكل سيناريو من هذه السيناريوهات، وأهم الإجراءات الواجب القيام بها والمقدمات المطلوبة لتحقيق كل منها، ليبنى على الشيء مقتضاه. أما عن السيناريوهات فهي لا تعدو أن تكون واحد من الأربعة الآتية:  

1. ترتيبات فتحاوية داخلية:  في هذا الترتيب تقوم فتح بعمل ترتيبات داخلية بحيث تقسم (تركة) أبو مازن بين رموزها (الأقوياء)، فترضي المتصارعين على هذه التركة، فتذهب السلطة حصة فلان، والمنظمة من نصيب علان، أما فتح فيحكم السيطرة عليها (علنتان)، فتغمد السكاكين المختفية خلف الظهور، وتبقى نار الغضب تعس تحت رماد التسوية الداخلية.

فإن كان في هذا الأمر مصلحة للفصائل الفلسطينة المختلفة، فإن أهم ما يمكن القام به من قبل هذه الفصائل لتحقيق هذا السيناريو هو أن تقوم ومن الآن بتحديد مركز الثقل التنظيمي -فتح، سلطة، منظمة- المؤثر في المشهد الفلسطيني والذي يترك أثراً حاسماً على صراعنا مع هذا العدو، فتعمد إلى تحديد (الأصلح) من فريق المتصارعين على هذا التركة، فتتواصل معه لتعرف ما هي توجهاته وما هي خططه للمستقبل في كل العناوين الخاصة بقضينا -مدنيها وعسكريها-، ثم تضع الإجراءات المناسبة التي تمكن صاحب (الحظ) من بلوغ المرام الفوز في هذا الزحام.

وأما عن أبرز التهديدات والفرص في مثل هذا السيناريو، فيمكن تصور الآتي:  

أ‌. التهديدات:  

 بقاء التنسيق الأمني على ما هو عليه.  

 بقاء تهميش الفصائل الفلسطينية من المشاركة الحقيقة والفاعلة في رسم المسارات الكلية.  

 بقاء نار الفتنة الداخلية تحت رماد التسوية الفتحاوية، مما ينذر بعواقب سوء مستقبلية.

 تَنَكُب (سعيد الحظ) الذي تمت الترتيبات معه وعُمل لوصوله إلى سدة المسؤولية عما وعد به وما قطعه على نفسه وفريقه من عهود ومواثيق.


ب‌. الفرص:  

 توزع مراكز القرار الفلسطيني مما قد يساعد على تحسين آلية ونوعية القرار.  

 اللعب على متناقضات الشخصيات المسؤولة (صاحبة ) القرار للوصول إلى أفضل التوجهات والقرارات.  

 طلب بعض المسؤولين عن الثلاثية الفلسطينية الرسمية -سلطة، منظمة، فتح- العون والمؤازرة من الفصائل لتقوية مواقفهم مما يساعد في تحسين هذه المواقف وتقويتها، وفرض الشروط والتوجهات.


2. ترتيبات فصائلية داخلية:  

في هذا الترتيب تقوم الفصائل الفلسطينية المنضوية ضمن(مؤسسات) منظمة التحرير وتلك الخارجة عنها، بعمل الترتيبات والإجراءات المناسبة التي تحفظ حقها في المشاركة الحقيقة في هياكل المنظمة، بحيث تصبح أكثر تأثيراً في وضع التوجهات وأخذ القرارات، كما تدخل الفصائل غير المنضوية في المنظمة إلى أطر عملها وهيكلياتها، مما يحقق لها إمكانية المشاركة والتأثير من الداخل؛ فتغير ما يجب تغيره وتثبت ما يجب تثبيته.

وهنا فإن أهم ما يجب القيام به -إن كانت المصلحة المرجوة هي في هذا السيناريو- هو العمل على حشد وترتيب وضع هذه الفصائل -الداخلية والخارجية- والتوافق على خطة العمل التي ستُطرح على الطاولة في اليوم التالي لرحيل عباس، بحيث تكون كلمتها واحدة ومطالبها منطقية، فتتحدث مع (وكيل) توزيع التركة بشكل موحد ومنسق، فتحرم المتربصين من اللعب على متناقضاتها -متناقضات الفصائل-، فتدخل إلى جسم المنظمة كتلة صلبة قادرة على التوجيه وأخذ القرار أو التأثير فيه.


وهنا تبرز مجموعة تهديدات وبعض الفرص ومنها على سبيل المثال لا الحصر.  

أ‌. التهديدات:  

 منع أولياء أمر المنظمة ورعاتها الإقليميين والدوليين من دخول الفصائل المقاومة إلى هذا الجسم.  

 وقف الدعم المالي والسياسي المقدم من قبل الرعاة الإقليميين والدوليين للمنظمة عند دخول فصائل المقاومة إلى داخل المنظمة.  

 إجبار فصائل المقاومة بالموافقة على ما وافقت عليه والتزمت به منظمة التحرير الفلسطينية من اتفاقيات ومعاهدات وبروتوكولات -شروط الرباعية الدولية مثلاً-.


ب‌. الفرص:  

 مراجعة كل الاتفاقيات المجحفة التي وقعتها المنظمة بــ (اسم) الشعب الفلسطيني.  

  وقف حالة التدهور والتراجع والموات التي تعتري الكثير من (مؤسسات) المنظمة.

 المشاركة الحقيقية في إدارة الشأن الفلسطيني اليومي، وفرض جدول أعمال حقيقي يراعي أصل هدف عمل هذه الفصائل، ألا وهو مقاومة العدو وتحرير الأرض.  

 الخروج النسبي للمنظمة من تحت ضغط الأنظمة العربية المتساوقة مع الأجندات غير الوطنية.


3. ترتيب خارجي داخلي:

في هذا السيناريو سوف يقوم (رعاة) القضية الفلسطينية الإقليميين والدوليين بالتدخل؛ كل لدى الفصيل الذي له معه صلات، في حركة الهدف منها؛ رأب الصدع ولم الشمل وغض الطرف عن الخلافات الداخلية، وعدم توتير الأجواء المحلية والدولية عبر تقديم الأسماء والأطر الفلسطينية الإشكالية (اقرأ حركات المقاومة الحقيقية) للمشاركة الفعلية في إدارة المشاهد الفلسطينية، فيدفع هؤلاء الرعاة الموقف باتجاه السيناريو الأول، بحيث تتقاسم فتح تركة عباس مع بعض التحسينات وجوائز الترضية المأخوذة من السيناريو الثاني ليتم تجاوز المرحلة بأقل الخسائر، وتعود الأمور إلى سباق عهدها.

فإن كان في هذا الأمر مصلحة ترجى فإن أهم ما يجب القيام به من الآن من قبل هذه الفصائل؛ التواصل كل مع حليفه والتوافق معه على سقف الحد الأدنى المقبول للقبول بمثل هذا السيناريو، وطبيعة الالتزامات التي يجب أن يلتزم به من سيرسو عليه (عطاء) هذا الموقف، ليبنى على الشيء مقتضاه. وعليه قد ينتج عن هذا السيناريو بعض التهديدات و(يخلق) عدداً  من فرص، يمكن أن تكون على النحو الآتي:

أ‌. التهديدات:

 بقاء القديم على قدمه من شخوص وإجراءات وعلاقات داخلية وخارجية مع سلطات الاحتلال الصهيونية وباقي الجهات الإقليمية والدولية.  

 مزيد من التدخل الإقليمي والدولي في الشأن الفلسطيني الداخلي وما يحمله من تبعات وتعقيدات.  

 زيادة طول -مع أنه على رأي المثل أطول من يوم السبت- مسار أخذ القرار الفلسطيني لكثرة الأطراف المطلوب مراجعتها وجس نبضها ومعرفة توجهاتها قبل أخذ القرار أو تحديد الوجهة.  

 نشوء روافع ضغط إقليمية ودولية يُضغط بها على الفصائل الفلسطينية غير المنضوية تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية.  

 المطالبة الإقليمية والدولية من الفصائل الفلسطينية بالاعتراف بكل ما وقعت عليه منظمة التحرير أو السلطة الفلسطينية وما التزمت به من عهود ومواثيق واتفاقات.


ب‌. الفرص:  

 الانفتاح الإقليمي والدولي على فصائل العمل الفلسطيني بمختلف شرائحه، مما يعدد وجهات النظر ويطرح رويات وسرديات غير المطروحة الآن.  

 تغيير في الرواية الفلسطينية الرسمية عبر تقديم وجهات نظر فصائلية مختلفة عما ساد إلى الآن وما تعارفت عليه تلك الجهات الإقليمية والدولية.  

  وقف حالة التدهور والتراجع في الموقف الرسمي الفلسطيني.  

 إمكانية توفير شبكة أمان نسبي للفصائل الفلسطينية يمكن استثمارها بما يخدم أهداف ورؤى هذه الفصائل.


4. (فوضى) مسيطر عليها:

في هذا السيناريو سوف لن يتنازل كبار فتح أو السلطة أو المنظمة لبعضهم بعضاً، وسيدب الخلاف على توزيع التركة، ومن هو الأحق بالسهم الأكبر منها، وستمور الأرض بمن عليها، وستظهر حالات تمرد وعدم انصياع، وسيقف كل (ناطور) على باب (مزرعته) وسيحرص على دفع وتوسيع حدوده ومساحة فعله، وستقف العوائل خلف أبنائها والعشائر خلف منتسبيها، الأمر الذي قد يفضي إلى فوضى عارمة واقتتال داخلي وفوضى غير مسيطر عليها، وهو موقف سوف يستفيد منه العدو ويحوله من تهديد له إلى فرصة يغتنمها، لذلك يجب العمل على أن تكون الفوضى في حال وقعت مسيطر عليها، متحكمٌ في مخرجاتها من قبل حركات وفصائل الشعب الفلسطيني -السياسية والعسكرية- من خلال تحديد الأهداف المطلوب تحقيقها وضبط مسارات التحكم بهذه الفوضى وإبقائها تحت السيطرة، إلى حين تحقيق ما دُفعت الأحداث بتجاهه، لأجل تحقيقه. وهنا فإن أهم الإجراءات المطلوب العمل عليها قبل بلوغ ساعة صفر هذا السيناريو هي: تحديد الهدف الكلي المطلوب تحقيقه من إشاعة حلة الفوضى المسيطر عليها هذه، ومراحل وإجراءات الوصول إلى هذه الأهداف، وتحديد مراكز ثقلها البشرية والإجرائية والجغرافية، وتحديد وتوفير وسائل السيطرة على حركتها، إن بشرياً أو مادياً، ووضع مؤشرات واقعية لتحقيق الأهداف الكلية ، وتعريف وسائل القمع والمنع -الشعبية والفصائلية- لكل من تسول نفسه إخراج هذه الحركة عن مسارها أو تجيير نتائجها لصالح العدو وأعوانه، وهنا أيضاً ستنتج تهديدات، وستولد فرص قد تكون على النحو الآتي:    

أ‌. التهديدات:  

 خروج (الفوضى) هذه عن حالة السيطرة وعدم القدرة على ضبط الأحداث.  

 إعادة احتلال مدن وقرى الضفة الغربية من جديد.  

 إمكانية تحييد النشطاء والقادة الفاعلين في هذا الحراك، بشكل كامل؛ عبر الاستهداف والتصفية، أو بشكل جزئي عبر الاعتقال والإبعاد.  

 تكتل (مؤسسات ) السلطة الفلسطينية ـ الأمنية والسياسية والتنظيمية ــ مع بعضها البعض لستشعار الخط، وتوحشها في مواجهة أبناء شعبنا. 

 

ب‌. الفرص:  

 (خلق) واقع جغرافي أمني مناسب للمقاومة والمقاومين.  

 تحييد بعض مراكز التهديد المحلي والصهيوني.  

 زيادة فرصة الاحتكاك مع العدو مما يزيل حاجز الخوف والتحسب منه.  

 السيطرة على مقرات ومقدرات تساعد في بناء ومراكمة قدرات المقاومة.  

 إمكانية تشغيل قدرات مقاومة غير ممكن تفعيلها في غير حالات الفوضى؛الكلية أو الجزئية.

 (خلق) واقع أمني غير مناسب للعدو عبر تهديد مغتصباته وطرق الوصول لها.  

 حرمان العدو من مراكز ثقل أمنية -معلوماتية أو عملياتية- أنفق عليها الكثير من الجهد والوقت.


ثالثاً: المفاضلة: نعتقد أن أفضل سيناريو يمكن أن يخدم أهداف المقاومة الفلسطينية هو سيناريو الفوضى المسيطر عليها؛ كونه يحقق لها مجموعة من المصالح والأهداف، جئنا على ذكر بعضها سابقاً، ويمكن تصور واشتقاق أكثر مما قيل وذُكر. فنحن في حالة حرب مع عدو يستخدم كل إمكاناته وقدراته -الذاتية وغير الذاتية- في التصدي لنا ومنعنا من تحقيق أهدافنا، حيث تعد البيئة الآمنة المطمئنة الهادئة المنتظمة متوقعة السلوك أفضل بيئة عمل له، مما يحتم علينا خلط أوراقه وبعثرة قدراته، الأمر -خلط الأوراق- الذي يمكن تصور حدوثه حال غاب عباس، ودب الخلاف بين ورثته، وعليه نوصي بالآتي من التوصيات.

  

رابعاً: التوصيات:

1. وضع هذا الطرح على طاولة التشريح لرفع نقائصه وفحص منطقيته.

2. تحديد الاهدف والمراحل والجغرافيات التي ستشملها حالة (الفوضى) المسيطر عليها هذه.

3. تحديد وسائل وإجراءات السيطرة على حالة (الفوضى) تلك.

4. التعارف بين مختلف الفصائل المقتنعة بهذا الطرح على منظومة قيادة وسيطرة تُفعل عند البدء بالإجراءات التنفيذية.

5. (خلق) بيئة  عمل سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية تساعد في تحقيق هذا الموقف والسيطرة عليه وتحوليه من تهديد إلى فرصة.

هذه بعض الأفكار التي نعتقد أنه يمكن الزيادة عليها أو الإنقاص منها، حتى لا تدهمنا الأحداث، ويعاد ترتيب المشهد ونحن عنه غائبين، والعاقل من احتاط لمستقبله، ونظر في مآلات شأنه.

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.  

عبد الله أمين  

04 07 2022

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023