انتصار من نوع آخر

حضارات

مؤسسة حضارات

حضارات 

 تسفي بارئيل / هآرتس

هكذا انتصرت غزة

مظاهرة ضد القتال والتجويع في غزة، تل أبيب، مساء أمس. إسرائيل تحت "سيطرتها" على غزة هي دولة متفككة، انتقامية، عديمة الأخلاق، وقبل كل شيء، تفتقر إلى الأفق والأمل. لا يمكن لأي نصر أن يشفي أو يعيد ترميم الندبة العميقة التي انحفرت بالفعل في تاريخ الدولة وفي طابع المجتمع (الإسرائيلي).

تصريحات عضو الكنيست أيمن عودة: "غزة انتصرت، غزة ستنتصر" — لا تحتاج إلى علامات اقتباس على الإطلاق. انتصار غزة بدأ يبدو كحقيقة. فما سعت إليه حماس في 7 أكتوبر، يكمله الآن سكانها الضعفاء، الجائعون، المحتضرون، القتلى، الجرحى، والأيتام في القطاع. هذا انتصار سيواصل التعاظم كلما وسّع الجيش الإسرائيلي سيطرته على غزة، ودفع بمليوني وربع المليون من سكانها إلى حظائر الجوع، بينما يواصل بفرح ملء جداول الموت بأرقام القتلى.

الذعر من محاولة الانقلاب القضائي قبل 7 أكتوبر، والرعب من إقالة المستشارة القضائية للحكومة، والصدمة من التعيين المرتقب لمسيحاني لرئاسة الشاباك، ومقاطعة رئيس المحكمة العليا، والتشريعات التي تطمح إلى منح الحكومة سلطات غير محدودة، وحتى الاستنكار لتصريحات عضو الكنيست أوريت ستروك البذيئة — كل هذه الأمور أصبحت هامشية وثانوية. النضال المتعثر ضدها قد يمنح شعورًا بأن الحديث يدور عن الدفاع عن "القلعة" التي من دونها ستنهار الديمقراطية. لكنه بدأ يفقد صلته بالواقع.

لأنه، بينما تُكتب آلاف الكلمات النارية التي تحذر من موت الديمقراطية، تقوم غزة بإجراء "هندسة جينية"( لإسرائيل) ومواطنيها تجعل الانقلاب القضائي غير ضروري. يوميًا يُقتل سكان غزة وهم في طريقهم للحصول على طرود الطعام البائسة. ليس شخصًا أو اثنين، بل عشرات من الرضّع، الأطفال، النساء، والمسنين الذين يُجبرون على الاختيار بين الموت جوعًا أو برصاصة بندقية. جثث عائلات كاملة مدفونة تحت الأنقاض، لأن الجيش الإسرائيلي لا يسمح بإنقاذهم.

كل هذه الفظائع أصبحت مألوفة للعيون والآذان الإسرائيلية. لكنها ليست مجرد "روتين حرب" ممل يلفّ نفسه بتبريرات "الضرورات الأمنية" وحماية حياة الجنود. العنصر الجديد في العقيدة الإسرائيلية يقول إن وجود دولة إسرائيل مرهون بإبادة غزة بالكامل. إنها مهمة مقدسة تبرر التخلي عن الأسرى، والمطالبة باستخلاص كل طاقة جنود الاحتياط والجنود النظاميين وعائلاتهم حتى النهاية، وتحويل سائقي الجرافات المدمّرة إلى أبطال ثقافيين، وتبيح سفك دماء آلاف المدنيين.

هذه "المهمة" فتّتت الحرب إلى أهداف تبدو قابلة للتحقيق: "السيطرة على 75% من مساحة القطاع"، "إسقاط حكم حماس"، "إعادة الأسرى"، "تركيز السكان في مدينة إنسانية"، وإذا حققناها — فقد انتصرنا. لكن، بدلًا من النصر، حصلنا على وصفة لحرب يجب أن تستمر، لأن مجرد وجودها يبررها.

لكن، لنفترض للحظة أن كل هذه الأهداف قد تحققت فعلاً:
يرفرف العلم الإسرائيلي فوق المساجد المتبقية في غزة، وطُرد جميع سكانها، وقُتل جميع مسلحي حماس، والجرافات تجهّز الأرض للمستوطنات، وأصبحت مستوطنات "غلاف غزة" جزءًا من ريفييرا فاخرة.

مع أي شعب سنحتفل بالنصر؟ في أقل من عامين، حوّلت غزة (إسرائيل) إلى دولة أخرى. باسم الحرب، أصبح من المسموح سلب حرية التعبير، واعتقال الصحفيين، وفصل المعلمين، ومنع العروض الفنية والثقافية "غير اللائقة"، وفصل أعضاء كنيست و/أو تنفيذ عمليات  ضدهم، وضرب عائلات الأسرى، وإحراق منازل الفلسطينيين في الضفة الغربية، وتعذيب الأسرى.

غزة أيضًا شوّهت مواطني( إسرائيل)، وغيّرت لغتهم وهويتهم. من مواطنين كانوا يقدّرون ذات يوم حياة الإنسان، تحوّلوا باسم "المهمة المقدسة في غزة" إلى مقدّمي قرابين بشرية — قرابين من الأسرى، ومن أبنائهم، ومن آلاف الأطفال والنساء والمسنين من شعب آخر.

(إسرائيل) تحت "سيطرتها" على غزة هي دولة متفككة، انتقامية، عديمة الأخلاق، وقبل كل شيء، تفتقر إلى الأفق والأمل. لا يمكن لأي نصر، يأتي بثمن باهظ كهذا، أن يشفي أو يعيد ترميم الندبة العميقة التي انحفرت بالفعل في تاريخ الدولة وفي طابع المجتمع الإسرائيلي.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025