مركز القدس للاستراتيجية والأمن
حضارات
المحامية إيفا سيغال:
الإفراط في الخير عدوّ الإفراط في الخير: تطبيق الحلول الفورية في غزة
مرَّ أكثر من 21 شهرًا على هجوم أكتوبر 2023، ولا يزال الواقع في غزة – رغم التفوق العسكري الواضح والإنجازات العديدة – يرزح في مأزق استراتيجي. الضرر المتراكم في قدرات حماس العسكرية يتفاقم، كما تضعف قبضتها على السكان المدنيين، لكن السؤال المُلحّ هو: ما هي الخطوة التالية؟ كيف يمكن هزيمة حماس بشكل نهائي، والتأكد من عدم عودتها؟
لتحقيق هذه الهزيمة، لا بدّ من بديل ملموس؛ كيان آخر يحلّ محل حماس. ويبدو أننا لم نبلور مثل هذا البديل حتى الآن، رغم التقدم الواضح على عدة مستويات. نحن ننتظر "الحلّ الصحيح"، و"الإجماع الواسع"، و"النموذج المثالي"، لكن الواقع قد يسبقنا ويفرض نفسه – وليس بالضرورة لصالحنا.
المشكلة ليست في الأداء العملي، بل في المفهوم. (إسرائيل )لا تعاني من عجز في القدرة على الضرب، لكنها محاصَرة بشعورٍ عامّ أن لا إنجاز يمكن تحقيقه في غزة. ووسط هذا الانطباع، تتصاعد الدعوات – محليًا ودوليًا – لإنهاء الحرب. لكن، نهاية الحرب إلى ماذا؟ هل نترك حماس، منهكة لكنها حيّة، لتعيد بناء نفسها وتتحيّن فرصة لهجوم جديد؟ أم نقبل في النهاية، مضطرّين أو عاجزين، بحكم السلطة الفلسطينية رغم فشلها؟
في انتظار اليوتوبيا، نحصد الفوضى – آن الأوان لنموذج لامركزي وواقعي
لا يبدو أن هناك نموذجًا واحدًا يصلح لغزة بأكملها في هذه المرحلة، ولا حلاً سحريًا يضمن الاستقرار الفوري. إن التطلّع إلى حل مثالي يصيبنا بالشلل. كان من الأسهل تقديم تصور موحد، لكن الواقع لا يسمح بذلك. بدلًا من الانتظار، يجب أن ندرك أن الطريقة المُثلى هي تبنّي حلول غير مثالية، كلٌّ في مكانه، وفقًا للفرص المتاحة. نتعلم من التطبيق، ونتحرك، حتى إن كان التقدم بطيئًا. لسنا مضطرين لتقديم حل شامل لغزة في يومٍ واحد، لكن علينا أن نبدأ بترسيخ حقائق جديدة على الأرض.
الرؤية المناسبة لهذه المرحلة هي لا مركزية السيطرة. لا ينبغي تمكين جماعة واحدة، وبالتأكيد ليست السلطة الفلسطينية أو نسخة مُخففة من حماس. لا حاجة لمحاولة بناء دولة فاشلة جديدة، بل نظام محلي متعدد الرؤوس، يوزّع السيطرة بحسب الواقع، والولاءات، والقدرات.
رفح كنموذج أولي – إعلان مناطق خالية من سيطرة حماس
منطقة رفح تقدم نموذجًا عمليًا. في بعض أحيائها، تتمتع عشيرة "أبو الشباب" بنفوذ يتفوق على حماس. صحيح أن هذه العشيرة ليست ديمقراطية ولا صديقة لإسرائيل، لكنها تمثل نقطة انطلاق. لا نقترح إعلانها حاكمة لغزة، لكن يمكن لإسرائيل أن تعتبرها، في مناطق محددة، شريكًا محليًا مؤقتًا. في هذه المناطق، يمكن نقل المساعدات عبرها، وضمان عدم استهداف السكان طالما لا توجد أنشطة لحماس. بهذه الطريقة، يبدأ الانفكاك عن حماس في قطاع غزة – ولو تدريجيًا.
ينبغي أن نعلن هذه الخطوات رسميًا، حتى وإن لم تكن الاتفاقات مكتملة بعد. بذلك، تبدأ سردية الانتصار، وتُوجه ضربة، ولو رمزية، لسلطة حماس.
تقوم إسرائيل فعليًا بدعم "أبو الشباب"، ويبدو أن رجالها يساهمون في تقويض حماس وتحفيز سكان غزة الباحثين عن بديل. لكن هذا غير كافٍ. الإعلان الرسمي عن بدائل محلية يُعزز الانفكاك عن حماس، ويقصّر الطريق نحو استبدالها.
من الممكن أن تتحول هذه المناطق إلى "مناطق آمنة" لمن يرفضون حماس ويبحثون عن الأمان. كثيرون من السكان تعبوا من حكم حماس، ويظهر ذلك في إقبالهم الكبير على نقاط توزيع المساعدات رغم تهديدات الحركة. يعيش هؤلاء في مساكن مؤقتة ويُجبرون على التنقّل والإخلاء مرارًا. لذلك، من الضروري توفير أماكن آمنة ودائمة لهم، ولو مؤقتًا – مثل "المدينة الإنسانية" المخطط لها بين رفح وخان يونس، ومناطق أخرى مستقبلاً.
هذا يحقق مصالح عديدة: يُخفف الضغط على الجبهة، يُحسّن صورة إسرائيل دوليًا، يُعزز المساعدات، وقد يُسهّل جمع معلومات استخباراتية – بما في ذلك عن الأسرى. إذا ازداد تدفق المدنيين إلى هذه المناطق، يمكن توسيعها بسرعة، وبالتالي تعجيل سقوط سيطرة حماس.
تعزيز الأصول الاستراتيجية: لا انسحاب من محور موراغ
للمؤسسات الإغاثية دور استراتيجي. ومن الخطأ التفريط بهذه الميزة، مثل القبول بانسحاب مؤقت من محور موراغ. يجب، بدلًا من ذلك، تعميق التأثير الإنساني خارج إطار حماس، واستخدامه كرافعة لتحطيم هيمنتها.
لا نموذج واحدًا – بل خطوات مرنة وتراكمية
يمكن لاحقًا اعتماد نموذج متدرج. مثلًا، إعلان محور نتساريم منطقة أمنية تحت السيطرة الإسرائيلية، وفي مناطق أخرى يُسمح بحكم مدني محلي من قبائل تسعى إلى استنساخ تجربة رفح. أو ربما تظهر منظمات محلية غير قبلية تمارس الحكم المدني. وفي بعض المناطق، قد تقتضي الحاجة وجود حكومة عسكرية محلية مؤقتة – وهو أفضل من استمرار حماس.
في ديسمبر 2024، شاركتُ مع باحثين آخرين في إعداد "خطة الجزر: إدارة الشؤون الإنسانية كخطوة انتقالية في غزة". تضمّنت الخطة فصل المساعدات عن حماس، وإنشاء مدن للنازحين بإدارة إنسانية مستقلة عن السياسة. "المدينة الإنسانية" اليوم تمثل تطبيقًا عمليًا لهذه الرؤية، ويمكن تكرارها في مناطق متعددة.
بدلًا من انتظار خطة مركزية شاملة، يجب تفعيل نماذج محلية متعدّدة تتماشى مع الواقع المتغير. فاللامركزية قد لا تكون ضعفًا، بل مفتاحًا إلى الاستقرار حين تفشل محاولات تشكيل حكومة واحدة.
ترسيخ الواقع الجديد – وإنهاء الفراغ
الهدف المباشر هو إعلان مناطق خالية من حماس، وتشكيل حكومات محلية أو مؤقتة – مهما كانت مسمياتها، ما دامت لا ترتبط بالحركة. يجب تشجيع المبادرات المحلية، وتعزيز العناصر البراغماتية، ودعم من يتعاون مع الجيش الإسرائيلي ويحافظ على الهدوء.
في الشرق الأوسط، وربما في العالم كله، "الأفضل" أحيانًا هو عدوّ "الجيد بما فيه الكفاية".
تحديات محتملة
نعم، من الأسهل التعامل مع طرف مركزي واحد. لكن هذا النموذج غير متاح حاليًا، ولا يبدو أن هناك جهة بديلة مؤهلة لتولي كامل القطاع. الجمود أسوأ من الحرج.
التحدي الآخر قد يأتي من المجتمع الدولي، الذي قد يرى في الخطوات الإسرائيلية تقويضًا لحق الفلسطينيين في تقرير المصير أو لحل الدولتين. لكن الواقع يفرض نفسه: لا أفق لحل الدولتين في المستقبل القريب، واللامركزية قد تُمهّد لهذا الحل أكثر من أي سيناريو آخر يُبقي حماس في الحكم.
اللامركزية تتيح مساحات خالية من التحريض، يمكن معها ربط الإعمار بغياب التطرف والتعاون. هذه الشروط قد تُفضي إلى حكومات فلسطينية مسؤولة يمكن التفاوض معها مستقبلًا. أما بقاء حماس – أو أي طرف متطرّف – فيعني استمرار الحرب، وغياب الأمل في أي حل سياسي.
الخلاصة: النصر يُصنع على الأرض، لا على الورق
هزيمة حماس لا تكتمل بالقوة العسكرية فقط، بل بالجهة التي ستتولى الحكم بعدها. على إسرائيل التوقّف عن انتظار النموذج المثالي. إن أمكن تشكيل حكومة محلية، فلنُشكّلها. وإن كانت هناك فرصة لحكم عسكري محدود، فلنُنفّذها. وإن ظهرت قبيلة قادرة على تولّي المسؤولية، فلتُدعَم.
لا حلّ واحدًا، بل حلول متعددة، تُرسي معًا واقعًا جديدًا في غزة.
ولمن لا يزال ينتظر "الخطة السياسية الشاملة"، نقول: الفراغ لا يبقى فراغًا. إمّا أن نملأه نحن، أو يملؤه سوانا.