من الإنكار إلى الذعر: إسرائيل تهرول نحو هدنة إنسانية في غزة

حضارات

مؤسسة حضارات

 "هآرتس

حضارات 

 عاموس هرئيل:

نتنياهو أنكر الكارثة الإنسانية في غزة، والآن يُجبر على التحرك العاجل لتخفيفها

تشير التحركات الإسرائيلية المتسرعة يوم السبت إلى خطورة الوضع الإنساني في قطاع غزة، وردّ الفعل الدولي الحاد تجاهه. ففي الوقت الذي يُرسل فيه الجيش الإسرائيلي ضباطًا إلى وسائل الإعلام لنفي وجود مجاعة في القطاع، قام رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بتغيير جذري في السياسات: للمرة الأولى، ألقى سلاح الجو حزم مساعدات من الجو، وأعلن الجيش عن هدنة إنسانية تبدأ اليوم، مع فتح ممرات لعبور قوافل الأمم المتحدة.

تم اتخاذ هذه القرارات بحالة من الذعر وبسرعة، مع تهميش قادة التيار اليميني المتطرف في الحكومة. وبعد أكثر من أربعة أشهر على خرق اتفاق وقف إطلاق النار مع حماس واستئناف القتال، تُجبر إسرائيل على الاعتراف بأنها وصلت إلى طريق مسدود: لا زيادة الضغط العسكري، ولا السيطرة على المساعدات الإنسانية، قرّبتها من التوصل إلى صفقة لإعادة الأسرى. بل على العكس، يبدو أن وضع حماس قد تحسّن نسبيًا.

كانت التحذيرات واضحة تمامًا، لكن الحكومة الإسرائيلية أغلقت عينيها وأذنيها. في "هآرتس" ووسائل إعلام أخرى، كُتب في مارس أن العودة للحرب كانت تهدف إلى إعادة حزب "عوتسما يهوديت" إلى الائتلاف بعد انسحابه عقب صفقة الأسرى في يناير، وأنها لن تغيّر مجرى الحرب. لاحقًا، نُشر الكثير عن عبثية التحركات العسكرية، وعن حجم القتل والدمار، وعن فشل الصندوق الأمريكي للمساعدات – بمشاركة إسرائيلية – في تحقيق أهدافه الطموحة لتوفير الغذاء للسكان.

في الأسبوع الماضي، وصلت الأمور إلى حد الكارثة – من حيث الواقع ومن حيث الصورة الإعلامية.

ظهرت صورة جثة الطفلة الفلسطينية زينب أبو خليف، التي توفيت جراء سوء التغذية، يوم أمس. هذا المشهد وحده كافٍ لإيقاظ ضمير العالم تجاه معاناة سكان غزة.

انتشرت مظاهر الجوع، أو الاقتراب من المجاعة، في مختلف أنحاء القطاع. صحيح أن ليس كل التقارير موثوقة، وأن حماس تستغل الأزمة دعائيًا، لكن ذلك لا يغيّر من واقع المأساة. فحجم الكارثة يكفي لإثارة اهتمام دولي متجدد بمعاناة أكثر من مليوني فلسطيني. لم تعد أوروبا والعالم العربي فقط معنيين، بل حتى الرئيس الأمريكي الصديق لإسرائيل بات غير قادر على تجاهل ما يحدث.

المفاوضات بشأن صفقة التبادل – التي كانت متعثرة أصلاً – انهارت تمامًا. أدركت حماس أن لديها الآن ورقة ضغط في ظل الغضب الدولي من (إسرائيل)، فتمسكت بمواقفها في المحادثات. (إسرائيل) والولايات المتحدة أعلنتا وقف الاتصالات في قطر، واتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حماس بإفشال المفاوضات، مضيفًا: "ربما قادة حماس ببساطة يريدون الموت". ورغم الوعود بالبحث عن مسارات بديلة للمفاوضات، لم يظهر شيء ملموس حتى الآن. المجتمع الدولي منشغل حاليًا بإيجاد وسائل سريعة لتخفيف المعاناة في غزة والضغط على (إسرائيل) لوقف القتال. وربما باتت حكومة نتنياهو تدرك أن الوقت غير مناسب لهجوم عسكري جديد.

المسؤولية السياسية

في لحظات مأساوية كهذه، من الضروري تذكّر من قاد إسرائيل إلى هذا الوضع. رغم أن الجيش الإسرائيلي وجّه ضربات قاسية لحماس خلال العام الماضي، إلا أن جهود ترامب في يناير كانت قد وضعت الطرفين على طريق نحو صفقة، حتى لو كانت تلك الصفقة تعاني من ثغرات.

وزير المالية المتغطرس والمراهق سياسيًا، بتسلئيل سموتريتش، كتب قبل شهرين على منصة X (تويتر سابقًا):

"تذكروا هذا اليوم – بداية توزيع المساعدات في غزة عبر الشركة الأمريكية مباشرة للمواطنين، وبطريقة تمنع حماس من السيطرة عليها. هذه نقطة التحول في الحرب التي ستقود، بإذن الله، إلى النصر وإبادة حماس. متأخر... أفضل من ألا يحدث أبدًا".

لكن سموتريتش، شأنه شأن أبواق نتنياهو الإعلامية، تجاهل التحذيرات بشأن عدم قدرة الصندوق على تلبية احتياجات السكان، نظرًا لقلة عدد محطات التوزيع وخطورة الطريق إليها، في ظل فوضى ميدانية، كثير منها ناتج عن أفعال الجيش الإسرائيلي نفسه. ورغم علمهم بذلك، تمسكوا بأوهام السيطرة الكاملة على الأرض وعلى تدفق المساعدات، ظنًا أن ذلك سيقود إلى "هجرة طوعية" للفلسطينيين من غزة عبر سيناء.

أما المسؤول الأول عن هذه الكارثة، فهو رئيس الحكومة نتنياهو، الذي يعلم جيدًا أنه لا يوجد حل عسكري يعيد الأسرى أحياء. كما يدرك أن حماس ليست معنية أو مسؤولة عن السكان المدنيين، وأن هذه الإجراءات لا تؤدي سوى إلى إطالة أمد الحرب دون هدف واضح أو نتيجة.

منذ بداية العام، توفرت لإسرائيل فرص واقعية لإنهاء القتال – وإن كانت بشروط صعبة – وبدء مرحلة إعادة بناء الجيش والمجتمع. لكن نتنياهو أهدرها، لأن مصير ائتلافه كان أكثر أهمية بالنسبة له. خشي من انسحاب سموتريتش وبن غفير وفرض انتخابات مبكرة. والآن، يجد نفسه يتصرف بشكل مرتجل وتحت ضغط دولي متزايد. وربما يكون قد فات الأوان للإصلاح: حماس باتت متمسكة أكثر بمواقفها، مدعومة بتعاطف دولي متصاعد، بينما تواجه الحكومة الإسرائيلية خيارين: إما تصعيد جديد عديم الجدوى، أو القبول بوقف إطلاق نار مفروض – من دون استعادة الأسرى الأحياء أو جثامين الجنود.

الآمال، كما في السابق، تتجه نحو ترامب. فإذا تمكّن من التركيز قليلًا وتجاوز تشتته، ربما ينجح في فرض صفقة ما. فهو لا يزال يطمح للفوز هذا العام بجائزة نوبل للسلام، بعد أن تعذّر عليه تحقيق إنجاز دبلوماسي واضح في أي ساحة أخرى.

في هذه الأثناء، يستمر القتل والإصابات في قطاع غزة، بينما يتساءل كثيرون في إسرائيل: ما الهدف الحقيقي من هذه الحرب؟ فقد توفي أمس جندي احتياط من وحدة الهندسة متأثرًا بجراحه جراء انفجار عبوة ناسفة، وصباح اليوم أُعلن عن مقتل جنديين من لواء جولاني في انفجار استهدف ناقلتهم المدرعة.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025