حضارات
منذ بداية الحرب في غزة، بدأت تظهر مؤشرات واضحة على تدهور مكانة إسرائيل في الساحة الدولية. دولٌ كانت تُعدّ صديقة بدأت تنأى بنفسها، ووسائل إعلام كانت تُعرف بدعمها التقليدي (لإسرائيل) باتت تتبنى خطابًا نقديًا صارمًا. سياسيون غربيون يتحدثون علنًا عن عقوبات، والمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي تبدو أقرب من أي وقت مضى إلى إصدار أوامر اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين كبار.
ما كان يُنظر إليه في السابق كحملة إعلامية تنفذها حركة حماس ببراعة على منصات التواصل الاجتماعي، أصبح اليوم واقعًا سياسيًا ملموسًا. الصور الخارجة من غزة – من دمار شامل، وجثث تحت الأنقاض، وأطفال يموتون في المستشفيات بسبب نقص الوقود والأدوية – تركت أثرًا عميقًا في وعي الرأي العام العالمي.
وليس اليسار التقدمي في أمريكا أو أوروبا وحده من يُعبّر عن هذا التحول؛ بل حتى في أوساط الجمهور المعتدل، وبعض دوائر اليمين الليبرالي، بدأت تتصاعد تساؤلات جدية: هل لا تزال إسرائيل تمارس حقها في الدفاع عن النفس، أم أنها تحوّلت إلى قوة قمعية تجاوزت كل الخطوط الحمراء؟
لعدة عقود، اعتمدت إسرائيل على صورة مزدوجة: دولة صغيرة محاطة بالأعداء، ومجتمع ديمقراطي متقدم أخلاقيًا. لكن هذه الحرب نالت بشدة من تلك الصورة. فعندما تُقتل آلاف النساء والأطفال، ويُقال إن الجيش الإسرائيلي يتصرف ضمن "قواعد القانون الدولي"، يجد كثيرون في الغرب صعوبة في تصديق ذلك.
حتى في البيت الأبيض، ورغم استمرار الدعم العسكري، هناك مؤشرات إلى أن الصبر بدأ ينفد. في جلسات مغلقة، أعرب مسؤولون أمريكيون عن "قلق عميق" من أن (إسرائيل) لم تعد تسيطر فقط على العمليات العسكرية، بل بدأت تفقد أيضًا الرواية الأخلاقية التي لطالما شكّلت ركيزة دعمها الغربي.
الحملة الإعلامية والسياسية التي تقودها حركة حماس لا تقتصر على صور الدمار، بل تتضمن أيضًا خطابًا سياسيًا متماسكًا. متحدثو الحركة يستخدمون لغة حقوق الإنسان، يستشهدون بالقانون الدولي، ويركزون على البُعد الإنساني للأزمة. في المقابل، لا تزال (إسرائيل) تعتمد خطابًا يقوم على الردع والقوة و"القضاء على الإرهاب"، وهو خطاب بدأ يفقد جاذبيته في الغرب، خاصة لدى الأجيال الشابة.
الجامعات الأمريكية، من هارفارد إلى كاليفورنيا، أصبحت ساحات احتجاج ودعوات لمقاطعة الشركات المتعاملة مع إسرائيل. نجوم في السينما والموسيقى باتوا يتحدثون علنًا عن "الإبادة" و"التمييز العنصري"، وحتى داخل الجاليات اليهودية في الغرب، يبرز انقسام متزايد في المواقف.
في هذا السياق، لم تعد تحذيرات القانونيين الإسرائيليين من تحقيقات جنائية دولية أمرًا خياليًا. وإذا استمر الوضع على حاله، فإن السؤال لن يكون فقط كيف تُنهي إسرائيل الحرب في غزة، بل كيف تنقذ ما تبقى من شرعيتها الأخلاقية والسياسية في العالم.