"الحرب تحت الأرض: معركة بلا نهاية في غزة"

حضارات

مؤسسة حضارات

معهد دراسات الامن القومي

حضارات

إيزر جات:
ما لم نستوعبه بعد فيما يتعلق بالتداعيات الاستراتيجية للعمليات تحت الأرض في غزة

إن طول مدة حملة غزة، وصعوبة اتخاذ القرار، وحجم القوات المستخدمة فيها، جميعها عوامل مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالتحدي السري الفريد الذي تمثله هذه الساحة. ولهذا الواقع تداعيات بالغة الأهمية، ليس فقط على الوضع الراهن للحرب في قطاع غزة، بل أيضًا على الوضع الذي سينشأ بعد انتهائها.

القتال ضد حماس في قطاع غزة – الماضي والحاضر

من المتفق عليه أن عدم الاستعداد لمواجهة التحدي تحت الأرض في قطاع غزة كان أحد أبرز الإخفاقات التي عانى منها جيش الدفاع الإسرائيلي قبل وأثناء الحرب التي اندلعت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وقد كانت العملية الواسعة التي نُفّذت لضرب الأنفاق وتشكيلات حماس بداخلها، باستخدام سلاح الجو في إطار عملية "حارس الأسوار" في مايو/أيار 2021، أقل تأثيرًا بكثير مما رُوِّج له في حينه.

ففي مواجهة أنفاق حماس الهجومية التي تمتد إلى داخل الأراضي الإسرائيلية، أُقيم جدار تحت الأرض بتكلفة ضخمة على طول الحدود، لكنه لم يمنع الهجوم الذي شنّته حماس من فوق الأرض. ولم يكن جيش الدفاع الإسرائيلي مستعدًا لاحتلال القطاع، ولم يُعِد نفسه بالشكل الكافي لمواجهة التحدي الدفاعي تحت الأرض الذي يُعدّ ركيزة أساسية في المفهوم الدفاعي لحماس. كما أن التكتيكات والوسائل التي جرى إعدادها لم تصمد أمام اختبار الواقع.

ويُقدّر طول "أنفاق" غزة بما يتراوح بين 500 و600 كيلومتر، وهو يربط جميع تشكيلات حماس ومقراتها ومنشآتها على امتداد القطاع، كما يصل بين آلاف المنافذ المؤدية إلى مواقع قتالية داخل المباني في المناطق الحضرية، ومواقع لإطلاق الصواريخ باتجاه (إسرائيل). ونظرًا للمخاطر الكبيرة التي ينطوي عليها تطهير الأنفاق، فإن العملية تسير بوتيرة بطيئة، ويستلزم تدميرها كميات هائلة من المتفجرات ووسائل أخرى. ولا يزال جيش الدفاع الإسرائيلي بعيدًا عن إتمام هذه المهمة، وهو ما يُعدّ أمرًا معروفًا ومعترفًا به على نطاق واسع.

التداعيات الاستراتيجية للعمل تحت الأرض

ينبغي أولًا توضيح الفرق بين قطاع غزة وساحات أخرى عمل فيها جيش الدفاع الإسرائيلي ضد العصابات المسلحة. فظروف القطاع فريدة: فالحجر الرملي الناعم فيه يتيح الحفر تحت الأرض بسهولة نسبية، بخلاف الصخور الجيرية الصلبة في لبنان والضفة الغربية، مما يجعل العمليات في هذه الساحات مختلفة تمامًا.

في لبنان، كان الوجود السري لحزب الله محدودًا نسبيًا. حفر الحزب أنفاقًا هجومية نحو إسرائيل (دُمر معظمها بين ديسمبر 2018 ويناير 2019)، واحتفظ بمستودعات ذخيرة وورش تصنيع ومواقع قيادة في مواقع صخرية محصنة. ورغم أن بعض المواقع التكتيكية وُضعت داخل القرى وخارجها، إلا أن المنظومات "الاستراتيجية" كانت محدودة من حيث الموقع ومعروفة نسبيًا للاستخبارات الإسرائيلية. لذلك، عندما بدأت المرحلة الهجومية ضد حزب الله في سبتمبر 2024، تمكّن سلاح الجو من تدمير معظم هذه المنظومات خلال ساعات أو أيام أو أسابيع، كما جرى القضاء على القيادة التكتيكية للحزب فوق الأرض بشكل شامل. في عام حرب الاستنزاف الذي سبق هذه الحملة، عملت قوات خاصة من جيش الدفاع الإسرائيلي على كشف المخابئ والأنفاق في جنوب لبنان وتدميرها. أما في المرحلة الهجومية، فقد اقتصر دور القوات البرية على تطهير خط التماس الحدودي. وعلى الساحة اللبنانية، تحقق نصرٌ سريع وحاسم، بفضل الدمج بين القوة الجوية والعمل الاستخباراتي ضد خصم يُعدّ أقوى بكثير من حماس.

التحدي المستمر في غزة

في المقابل، فإن استمرار الحملة في غزة لما يقرب من عامين يرتبط بشكل حاسم بالتحدي السري. إلى جانب أزمة الرهائن التي تُقيد حرية حركة الجيش، فإن المساحات الجوفية الواسعة تُتيح لحماس التحرك والاختباء والعمل من باطن الأرض. ومن داخل هذه المساحات، تخرج وحدات حرب العصابات الصغيرة التابعة لها لتزرع المتفجرات وتُطلق الصواريخ وتهاجم بمختلف الوسائل.

ورغم كل ما راكمه جيش الدفاع الإسرائيلي من خبرة في هذا المجال، لا توجد حتى الآن طريقة فعالة لتحييد هذا النوع من القتال. لذلك، فإن طول أمد القتال، وصعوبة الحسم، وحجم القوات الضخمة المطلوبة - من وحدات نظامية واحتياطية - كلها نتائج مباشرة للتأخر في تطوير استجابة ملائمة لهذا التحدي. وفي ظل غياب رد فعّال، يُضطر الجيش إلى إغراق المنطقة بالقوات وتقدمها ببطء شديد، ما يزيد العبء العسكري.

السياق العالمي للعمل السري

يشكل العمل السري عنصرًا جوهريًا في الحروب غير المتكافئة، وقد استخدمته حركات مسلحة ضد جيوش نظامية متفوقة. كان الفيتكونغ مثالًا بارزًا على هذا النمط خلال الحرب في فيتنام، لكن أنفاقه كانت أقصر وأبسط، وامتدت في مناطق غابية غير مأهولة. أما في غزة، فإن العمل السري أكثر تعقيدًا واتساعًا وأهمية، بل يتجاوز في خصوصيته تجارب الولايات المتحدة ضد القاعدة وطالبان وداعش، حيث كان استخدام الأنفاق محدودًا.

وتُفسّر طبيعة الأرض الفرق بين غزة وتلك الساحات الأخرى، خصوصًا من حيث سهولة الحفر وقربها من إسرائيل، مما يُوفر بنية تحتية للهجمات البرية وإطلاق الصواريخ في وقت واحد - وهو واقع لا مثيل له في أي مكان آخر في العالم في مجال مكافحة العصابات.

ما بعد الحرب: التحدي المستمر

لهذا الواقع الجوهري تداعيات كبيرة على الوضع بعد انتهاء الحرب. ففي لبنان، يُعتبر حزب الله مجرد طرف من بين أربعة أطراف طائفية، وتوجد قوى محلية ترغب في تقليص نفوذه، كما أن انكشافه أمام الضربات الجوية يجعل من السهل تحجيمه. أما في الضفة الغربية، فقد تمكنت إسرائيل من استعادة السيطرة خلال أسابيع في عملية "السور الواقي" عام 2002، وتعاونت السلطة الفلسطينية لاحقًا - بدرجات متفاوتة - في مواجهة المنظمات المسلحة، خاصة حماس.

أما غزة، فالوضع مختلف جذريًا. فمن شبه المؤكد أن حماس ستعيد بناء أنفاقها، وأن كثيرًا من الشبكات الجوفية لن تُدمّر. وسيبقى تهديد هذه الأنفاق مستمرًا، خاصة على التجمعات الإسرائيلية القريبة من القطاع. وستُستخدم البنية التحتية الجوفية لإخفاء المقاتلين، والمقار، والمستودعات، وورش تصنيع الصواريخ. ويكمن التحدي الأكبر في صعوبة اكتشاف مواقع هذه المنظومة الجوفية المعقدة، مما يُعيد خطر الصواريخ والعمليات البرية.

الاحتمالات المستقبلية

حتى لو جرى تشكيل حكومة فلسطينية غير تابعة لحماس في غزة، فإن قدرتها على مواجهة حماس عسكريًا ستكون محدودة للغاية، بخلاف الوضع في الضفة الغربية. وستظل العمليات الجوية والبرية الإسرائيلية تواجه تحديات مشابهة - وربما أعقد - في المستقبل، لا سيما بعد أن تستعيد حماس جزءًا من قوتها.

ما قد يُحسن الوضع

قد يُسهم تفعيل استخبارات بشرية دقيقة ونشطة داخل القطاع في تحسين الصورة، كما أن التقدم التكنولوجي في مجالات الروبوتات وأجهزة الاستشعار، وإنشاء وحدات خاصة مُدرّبة على مواجهة التهديدات تحت الأرض، قد يُحدث فارقًا. ومع ذلك، فإن العمل السري سيظل على الأرجح العامل الأساسي الذي يحدد حدود القتال في غزة.

وأي أمل في تغيير جذري للوضع في القطاع - سواء على المستوى الثقافي أو الأيديولوجي أو الاجتماعي - هو مشروع طويل الأمد، وقد يستمر لأجيال، وينبغي أن يُؤخذ هذا الواقع في الحسبان عند بحث مآلات الحرب.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025