إعادة احتلال غزة: كلفة باهظة وتداعيات بعيدة المدى

حضارات

مؤسسة حضارات

معهد الديمقراطية الإسرائيلي

ترجمة حضارات


 د. عيران شامير بورير :

​​​​​​​
احتلال قطاع غزة له آثار بعيدة المدى ولا بد من مناقشته

في ضوء المنشورات المنسوبة إلى عناصر في دائرة رئيس الوزراء، والتي تشير إلى أنه يتجه نحو احتلال قطاع غزة بالكامل، تبرز الحاجة إلى مناقشة التداعيات الأخلاقية، والاستراتيجية، والسياسية، والأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية التي قد تصاحب هذه الخطوة.

احتدم الجدل حول الترتيبات المستقبلية التي ستُطبق في قطاع غزة منذ الأيام الأولى تقريبًا للقتال. فقد حدّد وزراء اليمين المتطرف في الحكومة هدفهم المعلن، وهو إعادة احتلال القطاع وإقامة مستوطنات إسرائيلية فيه. في المقابل، صرّح رئيس الوزراء سابقًا بأن غزة يجب أن تُدار مدنيًا من قِبل سكانها (ولكن ليس عبر السلطة الفلسطينية)، وبإشراف دول عربية، على أن يحتفظ جيش الدفاع الإسرائيلي بالسيطرة على أجزاء من القطاع طالما دعت الحاجة، دون إقامة مستوطنات إسرائيلية هناك.

مع استمرار القتال، ولا سيما منذ انطلاق عملية "عربات جدعون"، توسعت سيطرة الجيش الإسرائيلي على القطاع بشكل كبير. وبات هناك قلق متزايد، حتى قبل صدور النشرات الأخيرة أو اتخاذ قرار علني، من أن إسرائيل تتجه بالفعل نحو احتلال كامل للقطاع بوتيرة متسارعة. ولإثراء النقاش العام وفهم تداعيات هذه الخطوة بعيدة المدى، من الضروري أولاً الوقوف على الجوانب القانونية للاحتلال وما يترتب عليه من التزامات تجاه دولة إسرائيل.

وُضعت العديد من قواعد قانون الاحتلال قبل نحو 120 عامًا في لوائح لاهاي لعام 1907، والتي اكتسبت لاحقًا صفة القانون الدولي العرفي الملزم لجميع الدول. وتُطبَّق هذه القواعد في حالة "الاحتلال الحربي"، أي عندما تُقيم دولة "سيطرة فعلية" على أراضٍ خارج إقليمها (عادة أراضي دولة أخرى خاضت حربًا ضدها)، الأمر الذي يرتب عليها واجبات وحقوقًا تجاه السكان المقيمين هناك – الذين تصفهم اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 بـ"الأشخاص المحميين" – وكذلك تجاه الأرض نفسها وممتلكاتها العامة والخاصة. وفي الواقع، تحل الدولة المحتلة مؤقتًا محل الحكومة السابقة في كثير من المهام، لكن تُفرض عليها قيود للحفاظ على حقوق "الأشخاص المحميين" ومنع إجراء تغييرات جوهرية ما دام النزاع قائمًا. وتجدر الإشارة إلى أن "السيطرة الفعلية" يمكن أن تتحقق حتى من دون نشر قوات عسكرية في كل جزء من الأراضي.

من المهم فهم أن الدولة المحتلة ملزمة بضمان سلامة ورفاهية سكان الأراضي المحتلة في جميع مجالات حياتهم، بما في ذلك توفير الغذاء والرعاية الصحية، والحفاظ على النظام العام. ويمكن لها الاستعانة بجهات أخرى، مثل المنظمات الدولية أو الهيئات المحلية، إلا أن المسؤولية النهائية تبقى على عاتقها. وبمعنى آخر، لا مانع من أن توفر جهات أخرى الغذاء أو الخدمات الطبية، لكن إذا لم تكفِ جهودها، تلتزم الدولة المحتلة بسد النقص، حتى لو استدعى الأمر استخدام مواردها الخاصة.

هذه الالتزامات القانونية هي جوهر الانتقادات الدولية الموجهة إلى سياسة المساعدات الإنسانية التي تنتهجها إسرائيل في قطاع غزة. فبالنسبة لبعض الدول، مثل بريطانيا، لم ينتهِ وضع إسرائيل كقوة احتلال في القطاع – بحكم سيطرتها على حدوده ومختلف جوانب الحياة فيه – وبالتالي، فإنها مُلزمة منذ اليوم الأول للحرب بضمان توفير الغذاء والاحتياجات الأساسية لسكان غزة.

أما الموقف الرسمي للحكومة الإسرائيلية، كما عرضته أمام المحكمة العليا قبل أشهر في التماسات ضد سياستها الإنسانية في غزة، فهو أن أجزاء القطاع التي يقطنها الفلسطينيون لا تُعد أراضي محتلة، وأن التزامات إسرائيل الإنسانية تقتصر على السماح بدخول المساعدات من أطراف أخرى. وقد قبلت المحكمة هذا الموقف، معتبرة أن القطاع ليس تحت الاحتلال الإسرائيلي. لكن، مع توسع السيطرة العسكرية الإسرائيلية منذ ذلك الحين، تزايدت المطالبات الدولية باعتبار إسرائيل مُلزمة بواجبات المحتل، على الأقل في أجزاء من غزة.

ورغم ذلك، يبدو أن الحكومة تحاول تجنب ترسيخ وضعها كقوة احتلال. فهي تمتنع عن إنشاء "حكومة عسكرية" أو "إدارة مدنية" في غزة على غرار الضفة الغربية، وتحرص على أن تتولى جهات ثالثة توزيع المساعدات الإنسانية. ومع ذلك، ورغم محاولات التكتّم وغياب الشفافية بشأن تنظيم وتمويل هذه العمليات، تتكشف من حين لآخر معلومات عن انخراط الحكومة المتزايد في إدارة القطاع، على غرار ما جرى في السابق. ووفقًا لتصريحات منسوبة إلى "شخصيات بارزة في دائرة نتنياهو"، فإن "المسار حُسم، ونتجه نحو احتلال كامل". ومهما بذلت الحكومة من جهود لتجنب الاتصال المباشر بين الجيش والسكان الفلسطينيين أو لإخفاء هذه الخطط، فإن ذلك لن يعفيها من التزاماتها القانونية بمجرد ترسخ وضعها كقوة احتلال.

إن إعادة احتلال قطاع غزة تحمل تداعيات بعيدة المدى على إسرائيل، تبدأ من البُعد السياسي (حيث يكفي التذكير بالكلفة الدبلوماسية الباهظة التي تدفعها إسرائيل نتيجة سيطرتها الطويلة على الضفة الغربية)، مرورًا بالبُعد الأمني (حيث سيشكّل إبقاء القطاع تحت الاحتلال عبئًا كبيرًا على الجيش ويؤثر على مهامه الأخرى، فضلًا عن زيادة الضغط على من يخدمون فيه)، وصولًا إلى البُعد الاقتصادي (إذ ستكون الكلفة المالية والسياسية والاقتصادية المترتبة على السيطرة على القطاع وسكانه وبنيته التحتية المدمرة هائلة)، وانتهاءً بالبُعد الأخلاقي المتعلق بالسيطرة على أكثر من مليوني فلسطيني إضافي.

وبما أن إسرائيل دولة ديمقراطية، فمن المناسب أن تنتهج الشفافية الكاملة في خططها وسياساتها المتعلقة بقطاع غزة، وأن تطرح هذه التداعيات للنقاش العام بصدق ووضوح. أما غياب هذا النقاش والاكتفاء بخلق واقع "احتلال زاحف"، فسوف يفرض على إسرائيل مواجهة عواقب خطيرة قد تمتد لسنوات طويلة.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025