واجبات الأمّة نحو أهلنا في غزة: من التعاطف إلى الفعل المنظم

حضارات




مرّ على أهلنا في قطاع غزّة من البلاء والابتلاء ما ينفطر له القلب، ويلتهب له الضمير، وتخر له الجبال هدًّا، وإنّ في ما جرى ويجري من هوانٍ ومعاناةٍ هو امتحان عظيم للأمّة في دعوتها وضمائرها وأخلاقها؛ فلكلّ امتحان حجّته، ولكلّ مسؤولية أثرها. وفي خضمّ هذا الألم، لا يكفي أن نحزن ونأسف، بل الواجب أن يتحوّل الحزن إلى فعلٍ مؤسسيّ ومنهجي؛ يراعي الحقوق، ويستنهض الإمكانات، ويحوّل التضامن من شعاراتٍ إلى حراكٍ ثابتٍ ومتعددِ الأبعاد.

وهذه المقالة تقف على خطوط الواجبات المتباينة - الشرعية، والسياسية، والاقتصادية، والإعلامية، والتربوية، والاجتماعية، والروحية - وتقرّب السبل العملية التي يمكن للأمة أن تسلكها نصرةً لأهلنا في غزّة، دون تجنٍّ على القوانين الدولية أو على ضوابط الشرع التي تحكم العمل العام.

أولاً: الأساس الشرعي والأخلاقي للنصرة:

في مقوّمات الوعي الإسلامي ثوابت تضبط علاقتنا بالمظلوم: الإيمان بأنّ الناس إخوة كما قال الحقُّ سبحانه: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" [سورة الحجرات: 10]. وعن عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ، ومَن كانَ في حاجَةِ أخِيهِ كانَ اللَّهُ في حاجَتِهِ"(). وأنّ نصرة المظلوم واجبٌ من الواجبات الشرعية، وضرورة من الضرورات الإنسانية، والتكافل الإنساني والعمل على رفع الظلم من واجبات العبد أمام خالقه وإخوانه وأمته، فلا يكون هذا مجرد شعورٍ شخصي بل التزامٌ جماعيٌّ يتجسّد في قيام دول الجوار بواجبها في النصرة، والتدخل لرفع الظلم بتحرير البلاد والعبادة، وفيمؤسسات منظمة، وفي قانونٍ أخلاقي يوجّه الفعل العام، ومن هذا المنطلق لا يجوز للأمة أن تتردّد في مدّ السندِ للمظلوم مادّيًّا ومعنويًّا وسياسيًّا ما دام ذلك في مقتضى القيم الشرعية والإنسانية والقانونية.

ثانياً: الواجب السياسي العملي:

إنّ السياسة أداةُ تأثيرٍ لا يُستغنَى عنها؛ فهي ساحة فرض الخيارات وصياغة الوقائع؛ لذلك على الدول الإسلامية والحركات السياسية والفعاليات الشعبية أن تتضافر في أوراقٍ واضحة: الضغط الدبلوماسي المتواصل على المنظومات الدولية لوقف العدوان وإيقاف معاناة المدنيين، وإلزام الجهات الدولية بواجباتها الإنسانية، ومساءلة الجهات التي تُسهّل الاحتلال أو تمنحه شرعيةً دبلوماسية أو مالية.

كما يجب تفعيل القنوات النيابية والبرلمانية لإصدار قرارات تمنع الظلم وتفرض عقوبات اقتصادية وسياسية على من يزوّد الاحتلال بالأسلحة أو يغطي جرائمه، وفي الوقت نفسه، على الأمة أن ترفض التطبيع كشكل من أشكال القبول بالوضع الظالم، وأن تعمل على تطوير استراتيجياتٍ دبلوماسية بديلة تدعم الموقف الفلسطيني في المحافل الدولية، وتدعم حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة بوسائل قانونية ومدنية.

ثالثاً: الواجب الاقتصادي والتنموي:

لا يكفي أن نبكي على الدمار بل يجب أن نخطّط لإعادة بناءٍ مستدام، فمن أوجه الواجب الاقتصادي: مقاطعة البضائع والشركات التي تدعم الاحتلال أو تستثمر في مستوطَناته، ودعم المنتجات الفلسطينية كلّما أمكن، وإطلاق صناديق دائمة للإعمار والإيواء والتعافي النفسي والاجتماعي، تكون مستقلة وشفافة، تُدار بمؤسساتٍ أهلية وإسلامية تُحسن صرف الأموال وفق معايير إنسانية ومهنية، كما ينبغي الاستثمار في مشاريع تعيد الحياة الاقتصادية لغزّة: زراعةً، صناعاتٍصغيرةً، طاقةً متجددة، بِنَى تحتيةً قابلة للإصلاح والتطوير، مع الحرص على توظيف الخبرات المحلية وتدريب الشباب، والوقف الإسلامي يمكن أن يلعب دورًا محوريًّا إذا أُحيي وجرى تنظيمُه عبر تشريعات واضحة تضمن استدامته وشفافيته، وتَمنع أيّ استغلال أو تسييسٍ يُفرّغ العمل الخيري من طابعه الإنساني.

رابعاً: الواجب الإعلامي والثقافي:

الإعلام اليوم صناعةُ تَصوّرٍ وتكوين رأي؛ وقد راهن الاحتلال على رفض الحقائق أو تزييفها، وأدرك خطورة هذا الواجب فقام بقتل مئات الصحفيين لقتل الحقيقة بقتلهم كما يتصور؛ لذلك على المؤسّسات الإعلامية الإسلامية والعربية أن تضاعف جهودها في نقل الحقائق وتوثيق الجرائم وإيصال صوت الفلسطيني إلى العالم بلغاتٍ متعدّدةٍ ووسائطٍ متنوعة: تقارير بصرية منفّذة مهنيًّا، تقارير أكاديمية، إخراج قصص إنسانية مع شهاداتٍ موثَّقة، ومحتوى رقمي يواجه التضليل بكفاءة، وعلينا أن ندرب فريقًا محترفًا من الصحفيين والباحثين ليعمل بنزاهة ومهنية، وأن نستثمر في وسائل بديلة تؤمّن وصول الرسالة إلى خارطة القرار والرأي العام الدولي، كما ينبغي دعم الإنتاج الثقافي الفلسطيني: الأفلام، السرد، الشعر، البحث التاريخي، كي لا تُختزل القضية في مظاهرها اللحظية،وإنما تُعرض قضيةً حضارية ذات جذور ووجود قائم.

خامساً: الواجب التربوي والتعليمي:

إنّ المعركة ليست فقط على الأرض بل في العقول والقلوب والوجدان؛ لذلك يلزم إدماج القضية الفلسطينية في المناهج بطرقٍ تربويةٍ تأخذ بيد النشء إلى فهمٍ تاريخيٍّ عميق، مع تجنّب خطابٍ يحوّل الشغف إلى كراهية عمياء، فيجب أن تُقام دورات ومؤتمرات وورش عمل في الجامعات والمعاهد تُعنى بتاريخ فلسطين، بالحقوق الدولية، بآليات العمل الإنساني والسياسي الفعّال، وتُدرَس التجارب الدولية في الدفاع السلمي عن الحقوق، وكذلك لا بد من دعم البحث العلمي الذي يقدّم حلولاً عملية في مجالات الإعمار والاقتصاد والعدالة الانتقالية والمصالحة، وتيسير المنح للطلاب الفلسطينيين ومؤسسات التعليم العالي في غزة؛ لأنّ استدامة الصمود مرهونٌ ببناءٍ علميٍّ ومهني.

سادساً: الواجب الشعبي والاجتماعي:

الشعوب هي قوة التغيير؛ إذ تملك القدرة على التعبير والضغط في ميادين عدة؛ فيجب تنظيم حملات تضامنٍ مستمرة لا موسمية: تظاهرات واعية، مبادرات جمع تبرعات منظّمة، شبكات دعم للأسر المتضررة، إدماج اللاجئين والنازحين في برامج تأهيلية نفسية واجتماعية، وتوسيع الشراكات مع منظمات المجتمع المدني لبلورة ردود فعلٍ عملية ومتكاملة، ولا ننسى حقوق الجرحى والأسرى؛ فدعم الأسرى قانونيًّا وإنسانيًّا ضرورة أخلاقية، وكذلك رعاية الجرحى وتأمين علاجٍ مستدام ورفد مستشفيات غزة بالكفاءات والأدوات الطبية عبر شبكات إغاثة موضوعية ومنضبطة.

سابعاً: الواجب الروحي والدعوي:

لا يمكن أن ينفصل العمل المادي عن البُعد الروحي؛ فالدعاء وذكر الله والتضرع والوقوف مع أهل الغَيرة على الحق شأنٌ يمدّ القلوب بالقوة، ويحثّ النفوس على الاستمرار، فينبغي أن تُحَفَّز المساجد والمؤسسات الدعوية على عقد خطب ودروس تتناول القضية بوعي فقهي ومنهجي، تُبرز حقوق المظلومين وتشرح طرق النصرة المشروعة، وتمنع التشويش الغوغائي، كما على القادة الدينيين أن يقدّموا خطابًا متوازنًا يحثّ الأمة على العمل القانوني والسياسي والإحساني دون إفراط أو تفريط.

ثامنًا: نحو خطة عملية متعدّدة المستويات:

النصرة الناجعة تتطلب تنسيقًا بين هذه المحاور؛ لذلك أقترح خطواتٍ تنفيذيةًقابلةً للتطبيق فورًا:

(1) تأسيس مجلس عمل عربي-إسلامي مستقلّ يجمع مؤسسات المجتمع المدني والدول والمنظمات الخيرية لتنسيق الإغاثة وإعادة الإعمار وإدارة موارد الوقف.

(2) إطلاق مبادرة اقتصادية تدعم المشاريع الصغيرة في غزة عبر منظومةإقراض حسن، وبرامج تدريب مهني.

(3) حملة إعلامية دولية موحدة توظّف اللغات والوسائط الحديثة لتصحيح الصورة ونشر الوقائع الموثقة.

(4) برامج تعليمية جامعية، ومنح دراسية للطلبة الفلسطينيين.

(5) لوائح برلمانية وضغوط دبلوماسية على المستوى الدولي تطالب بتحقيقات مستقلة في الجرائم ومعاقبة المتورطين وفق القانون الدولي.

(6) شبكة دعم قانوني للأسرى والنازحين.

(7) بناء منصة وقف إسلامي شفاف تدير المشروعات الإنمائية والإغاثية بآليات رقابية حديثة.

وقبل هذا وبعده علينا أن ندرك أن هذا العدو لا يفهم إلا لغة القوة، ولا يرتدع بهيئات دولية أو قرارات أممية كما أثبتت التجارب؛ ولهذا فإن دعم المقاومة هو فريضة وضرورة، وتقويتها بكل سبيل ممكنة من الواجبات الشرعية والإنسانية والأخلاقية، وهذا الدعم يجب أن يكون شاملاً.

وختامًا: إنّ نصرة غزة ليست تطوعاً فحسب، بل التزامٌ أخلاقي وحضاري وشرعي، وإذا لم نترجم شعورنا إلى فعلٍ منسَّقٍ ومنظّمٍ، فسوف تذبل التعابيرُ على الشفاه، وتبقى القضية في طور الصمت، ولكنّني أؤمن أنّ الأمة إذا توافرت إرادتها وجمعت قدراتها، فإنّها قادرة على تحويل حالٍ من الانكسار إلى بداية تعافٍ، وعلى أن تثبت للعالم أنّ الوفاء للحق لا يزول ولا ينسى.

لنعمل إذن بلا تردد: بالسياسة الرشيدة، بالاقتصاد المسؤول، بالإعلام المهني، بالتربية الواعية، بالتضامن الشعبي، وبالروحانية التي تبني الصبر والأمل، فما النصر إلا نتيجة لوعيٍ جماعيّ وجهدٍ منظّمٍ وإرادةٍ ثابتةٍ على الحقّالمبين.




جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025