خطة البيت الأبيض لغزة

بين مقاصد السياسة الشرعية ومزالق الهيمنة الدولية

في ظرف دولي وإقليمي ضاغط، وأمام مشهد إنساني مأساوي في غزة جراء حربٍ طاحنةٍ أنهكت المدنيين ودمرت البنى التحتية، قدّم البيت الأبيض بتاريخ 29سبتمبر/أيلول 2025مقترحًا شاملاً عنوانه: "وقف إطلاق النار وإعادة إعمار وتنظيم الوضع السياسي والأمني في القطاع"، حمل المقترح لمساتٍ إنسانيةً ظاهرة: وقف فوري للقتال، تبادل أسرى ورهائن، تدفق عاجل للمساعدات، وخطط لإعادة تأهيل البنى التحتية الحيوية، لكنه حمل في جوهره توجيهاتٍ سياسيةً وأمنية بعيدة المدى: تحويل غزة إلى "منطقة منزوعة السلاح"، تدمير البنى التحتية العسكرية بما في ذلك الأنفاق ومنشآت إنتاج الأسلحة، إقامة حكومة انتقالية تكنوقراطية تحت إشراف دولي مباشر، ونشر قوة استقرار دولية تُنسّق مع دول إقليمية، إضافة إلى وعودٍ بأفقٍ سياسيٍ مؤجّل يرتبط بتنفيذ إصلاحات ومسارات إعادة تمكين السلطة الفلسطينية،نصوص الخطة والغلاف السياسي الذي تحمله تكشف أن المقترح ليس مجرد خارطة إنسانية، بل مشروع متكامل لإعادة تشكيل واقع غزة الأمني والسياسي والاقتصادي وفق ضوابط دولية يحدّدها ضامنٌ خارجي؛ لذلك يفرض الواقع قراءةً دقيقةً لهذه الخطة، لا من زاوية المصالح الآنية فقط، بل من زاوية السياسة الشرعية وقواعدها، ومقاصد الشريعة، على النحو الآتي:

أولا: قراءة في مضمون الخطة

تحت هذا العنوان لا بدّ من مسحٍ دقيقٍ للنصوص الأساسية في مقترح البيت الأبيض؛ لأن فهم تفاصيل البنود هو شرط أي تقييم شرعي وسياسي سليم؛ حيثتتركب الخطة من عناصر إنسانية وأمنية وسياسية واقتصادية مترابطة: على الجانب الإنساني، تلتزم الخطة بوقفٍ فوري لإطلاق النار يُقدَّم بوصفه المدخل الذي يتيح إدخال المساعدات وإعادة تأهيل المستشفيات وخطوط المياه والكهرباء والصرف الصحي، وإدخال معدات لإزالة الركام وفتح الطرق، وإعادة تشغيل المخابز، مع التأكيد على أن توزيع هذه المساعدات ينبغي أن يقع عبر الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة الدولية والمجتمع المدني المستقلّين عن الطرفين، وعلى الجانب الاقتصادي تُعرض خطط لإعادة تطوير غزة لصالح سكانها، تتضمن إنشاء منطقة اقتصادية خاصة بمعدلات تفضيلية، واستقدام خبراء لمخططات تنموية وتجديد البنى التحتية، وربط المشاريع باستثمارات إقليمية ودولية.

لكن الجوانب الأمنية والسياسية هي الأخطر في هذه الخطة: تقترح الخطة تحويل غزة إلى "منطقة خالية من السلاح" عبر برامج تدمير منشآت الإنتاج والأنفاق، ومسارات نزع سلاح تُنفّذ تحت رقابة مراقبين مستقلين وبرامج "إعادة شراء" وإعادة دمج للمقاتلين،وتضع الخطة إدارةً مرحلية لغزة عبر "حكومة انتقالية" من تكنوقراط فلسطينيين يُشرف عليها "مجلس سلام" دولي يترأسه الرئيس الأميركي، ويشارك فيه رؤساء دول أو شخصيات دولية، مع ضمانات بتمكين السلطة الفلسطينية لاحقًا بعد إتمام برامج الإصلاح،كما تقترح الخطة نشر قوة استقرار دولية تعمل مع الأردن ومصر لتأمين الحدود وتدريب الشرطة الفلسطينية، مع آليات لمنع إدخال السلاح واستثناءات لوجود محيط أمني إسرائيلي إلى حين إعلان غزة "آمنة"،في النهاية تُبقي الخطة "أفقًا سياسيًا" مؤجلاً لتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية، لكن هذا الأفق مشروط بزمن وإصلاحات ومرهون بإنجازات اقتصادية وأمنية تُعدّها الجهات الضامنة..قراءةُ هذه المكونات معًا تكشف أنّ الخطة تمزج بين تعهدات إنسانية عاجلة وبين بنودٍ تعيد رسم قواعد الاشتباك السياسي والأمني في غزة، وتضع شروطًا قد تُفضي إلى تغييرٍ جوهري في مأدبة القرار الفلسطيني إذا ما قُبِلت.

ثانيا: السياسة الشرعية وضوابط التعامل مع العروض الدولية

المرجعية الشرعية والسياسية التي تحكمُ هذا التقييم يجب أن تُستقى من قواعد السياسة الشرعية التي أرسى أسسها علماؤنا: مقاصد الشريعة الخمس، قاعدة درء المفاسد أول من جلب المصالح، قاعدة اختيار أخف الضررين عند التعذّر، مبدأ العبرة بالمآلات، ومبدأ السيادة والشورى بوصفه لبنةً أساسية في نظام الحكم الإسلامي .. وفق هذه المرجعية تُقاس كل بنود الخطة بمدى خدمتها لحفظ النفس والدين والعرض والعقل والمال، وبمدى تعريضها لهذه الضروريات لمفسدةٍ أكبر على المدى المتوسط أو الطويل،فأي بند يُنقذ الأرواح الآن -كبند فتح معابر عاجلة لتدفق الإغاثة وإصلاح مستشفيات -جائزٌ بل مطلوبٌ شرعًا بشرط ألا يكون ثمنًا للتخلي عن حقّ الدفاع أو لتثبيت احتلالٍ دائم،وعلى هذا الأساس تُقرّ السياسة الشرعية أنه: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ فإذا كانت الهُدنة تنقذ آلاف الأرواح لكنها تقود، عبر إجراءات مضمّنة، إلى مصادرة أدوات الدفاع وإزاحة الإرادة الوطنية، فإنها مرفوضة أو يجب تعديلها حتى تفقد قدرتها على إحداث تلك المآلات.كذلك تشدد السياسة الشرعية على ضرورة الضمانات العملية: لا يكفي وعد شفهي أو تعهدٍ مؤجل؛ بل يجب أن تُصحَب الاتفاقيات بآليات تنفيذية ملزمة، بمحاكمات دولية أو رقابة عربية -إسلامية مشتركة وطرق للعقاب الفوري عند الخرق، رغم أن الثقة في هذا وذاك أصبحت على المحك إن لم تكن قد انهارت وانتهت على مدار عامين متتاليين من الإبادة والتدمير، كما أن مبدأ السيادة والشورى يقطع بعدم قبول وصاية دائمة تُحلّ محلّ القرار الوطني؛ إذ لا يجوز شرعًا أن تُصاغ حكومة تُفرض من الخارج وتُستعاد لها صلاحيات السيادة دون قرار فلسطيني موثوق وتمثيل شعبي مقبول،وأخيرًا تُحذّر السياسة الشرعية من استخدام الإغاثة كأداة ابتزاز سياسي: المساعدات واجبة لكن تقديمها مشروط بكرامة الشعب وحقوقه، وليس مشروطًا بالتخلي عن حق المقاومة أو التنازل عن الأرض أو الثوابت الوطنية.

هذه القواعد تُفرز مبدئيًّا منهجًا عمليًّا: المرونة في قبول ما يضمن حفظ النفوس الآن، مع اشتراط ضمانات تحفظ السيادة والقدرة الدفاعية ومكتسبات "طوفان الأقصى"؛ والرفض الحازم لأي بندٍ يهدد بتفريغ المقاومة من أدواتها أو بكسر إرادة الشعب لمصلحة ترتيبٍ دولي يكرّس الهيمنة.

ثالثا: نقد بنود الاتفاق في ضوء السياسة الشرعية

عند تنزيل الضوابط الشرعية على بنود الخطة يظهر تمايزٌ حاسم بين ما يُمكن تقبّله بشروطٍ صارمة وما لا يُمكن قبوله إطلاقًا.

1. وقف إطلاق النار وقبول هدنة إنسانيّة مشروعة إذا كانت تؤدّي إلى إنقاذ الأرواح وإيصال المساعدات دون التفريط بالحقوق؛ لكن مثل هذا الموقف لا يجوز أن يكون مجرّد تثبيتٍ لمكاسب الاحتلال أو ذريعة لتمديد تواجد عسكري أو لتفريغ مناطق من أصحابها؛لذا يجب ربط أي هدنة بآليات انسحاب فعلية واضحة، وجداول زمنية قابلة للتحقق، وآليات لتحقيق الردع في حال انتهاكها، وبمرجعية عربية-فلسطينية في الرقابة.

2. تبادل الأسرى والرهائن واجب إنساني ومرغوب شرعًا، ويجب السعي له بكل وسيلة، لكن لا يجوز أن يُشترط الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين بتفكيك سلاح المقاومة أو بنزع قدرتها على العمل الدفاعي.

3. بند نزع السلاح الكامل خط أحمر؛ لأنه يمسّ واجب حفظ النفس وحماية الأرض،إنه يساوي عمليًّا تسليم غزة لهيمنةٍ أمنية طويلة الأمد ويفقد الشعب وسائل ردع أساسية؛لذلك نرفضه جملةً وتفصيلاً، ونُطالب بتفريقٍ عملي بين أدوات هجومية تُخضع لآليات رقابة وقيودٍ تقنيّة، وبين وسائطَ دفاعيةٍ وطنية تظلّ تحت إدارة فلسطينية موحّدة قادرة على حماية السكان.

4.الحكومة الانتقالية وإدارة تحت وصاية دولية لا تُقبل إلا بصيغةٍ تنصّ على مشاركةٍ فلسطينية حقيقية في التشكيل والقرار، وبمرجعيةٍ عربية-إسلامية ذات صفة رقابية متساوية، وبآلية زمنية واضحة لتسليم الصلاحيات للهيئات الفلسطينية المنتخبة أو الممثلة شرعيًا.

5. قوةُ الاستقرار الدولية مقبولة مؤقتًا ــ إذا كانت مراسمها مصمَّمة لتدريب قوى أمنية فلسطينية وإعادة بناء قدرات الشرطة تحت قيادة فلسطينية، وليست قوة احتلال أو وصاية دائمة ــ شرط أن تكون بموافقة عربية وإشراف فلسطيني، وبجدول انسحاب محدّد ومُلزم.

6. برامج الإعمار والاقتصاد مقبولة بل مُرحَّب بها شريطة أن تُدار تحت إشراف فلسطيني مباشر ومشاركة عربية تقنية ومالية، وألا تكون وسيلة لِتغيير ديموغرافي أو سياسي أو لشرعنة مصادرة الحقوق.

وأخيرًا:أي بند يحمل وعودًا مستقبلية عن "أفقٍ سياسي" يجب أن يُقترن بضمانات قانونية وتنفيذية مقدمًا، وليس بوثائقَ كلاميةٍ تُؤجل الحق إلى وقتٍ لا يُعلَم.

والخلاصة أننا نؤكد على ثوابتٍ لا تفاوض فيها: الاحتفاظ بحق المقاومة المشروعة، رفض نزع السلاح، حماية مكتسبات طوفان الأقصى، ومعها نعرض مرونةً عمليةً للنقاش في البنود الإنسانية والتنمية، شريطة نصوصٍ تحفظية ملزِمة وآليات رقابية عربية-إسلامية وفلسطينية تضمن عدم تفريغ المقاومة أو كسر إرادة الشعب في سبيل وعودٍ دولية غامضة.

رابعا: المقاصد الشرعية الحاضرة والغائبة في الخطة

عند تفكيك نصوص الخطة وقراءة مراميها في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية، يتّضح أن عناصر منها تصبُّ ظاهريًّا في اتجاه تحقيق مقاصد شرعية جزئية، في حين أن عناصرَ أخرى تُخشى أن تهدر أو تُقوّض مقاصد أعمق وأثمن إذا لم تُصحَب بضمانات صلبة؛لذلك لا يكفي وصف البنود بأنها "إنسانية"أو "أمنية"بمجرّد الصياغة اللغوية؛ بل ينبغي تقييمها بحسب أثرها الواقعي على مقاصد الشريعة الخمس: حفظ النفوس، وحفظ الدين، وحفظ العرض، وحفظ العقل، وحفظ المال -وإضافة مقاصدٍ أخرى ذات صلة بالسيادة والحرية والاستقلال، التي تُعدّ امتدادًا عمليًّا لمقاصد الشريعة في فضاء العلاقات الدولية والسياسة.

1.المقاصد الحاضرة ظاهريًّا

من البنود التي تستجيب لمقاصد شرعية من زاويةٍ أولية: بند وقف القتال وإدخال المساعدات وإعادة تأهيل المستشفيات وشبكات الماء والكهرباء، فهذه البنود تخدمُ مباشرةً مقصد حفظ النفوس وحفظ المال (من خلال إعادة تأهيل البنى ومنع الانهيار الاقتصادي الكامل)، كما تخفف من الانكشاف الصحي والنفسي لسكان القطاع، وهو ما يثبّت أساس الحياة والكرامة،كذلك، وجود بند لإعادة تشغيل المخابز وضمان الأمن الغذائي يتماهى مع مقاصد الحفاظ على العرض والنسل؛ لأن الأمن الغذائي ركيزة من ركائز بقاء المجتمعات واستقرار الأسرة.هذه العناصر -إذا نُفّذت فعلاً وبسرعة -فهي بلا ريب مُسوّغة شرعًا ومطلوبة عمليًّا.

2. المقاصد الغائبة أو المهدَرة مالم تُصحَّح العقود والضمانات

إلا أن البنود الجوهرية المتعلقة بالأمن السياسي -خصوصًا بند "نزع السلاح الشامل"و"الوصاية الإدارية" عبر حكومة انتقالية تُشرف عليها هيئة دولية -تمثّل تهديدًا مباشرًا لـمقصد حفظ النفس على مستوى الاستقلال والقدرة على الدفاع، كما تمسّ مقصد حفظ العرض حين تفتح الباب أمام تدخّلاتٍ قد تغيّر موازنات القوة، وتؤثر على حق الشعب في تقرير شؤونه.نزع السلاح الكامل، من هذا المنظور الشرعي، ليس مسألة تنظيمٍ فنيّ فحسب؛ بل هو مسألة وجودية إنْ صحّ أن يُفضي إلى جعل المجتمع غير قادر على منع العدوان أو على منع تهجيرٍ أو تغيير ديموغرافي؛لذلك يُعدّ هذا البند من أهم نقاط الغياب في تطبيق المقاصد: فهو يهدد مقاصد الشريعة الكبرى إذا لم يُعرض ضمن تصميمٍ يضمن الحماية الحقيقية والحقوق الثابتة.

3. مقاصد السيادة والشورى والعدالة مدخلًا شرعيًّا مفقودًا

أصول السياسة الشرعية تُلمِح إلى أن حكمَ الناس وإدارة شؤونهم لا تجوز أن تكون بغير موافقتهم أو بغير تمثيلٍ مقبول؛ ومن ثَمّ أي بندٍ يُقصي الفصائل المحلية أو يفرض إدارة خارجية دائمة يخالف مبدأ الشورى والشرعية الشعبية،كذلك، غياب آليات عدلية لردّ الظلم أو الانتهاك (آليات رقابة عقابية فورية، آليات تعويض فعّالة، وإجراءات تحقيق مستقلة في الانتهاكات السابقة)يعني أن مقصد العدالة (وهو امتداد لمقاصد الشريعة) غير مُلبًّى، مما يزيد احتمال بقاء جذور الصراع مستعرّة.

4. المقاصد العملية التي يجب تثبيتها بنصوص ملزِمة

من منظور مقاصدي تطبيقي، الخطة يمكن أن تُقبل جزئيًّا إذا تم تضمينها نصًّا واضحًا يضمن ما يلي (كل بندٍ هنا مُصاغ بذهنية مقاصدية تحفظ كليات الشريعة وركائز التحرير):

حفظ القدرة الدفاعية كمبدإ: يكفّ الاتفاق عن المطالبة بنزع سلاحٍ كاملٍ يحطّ من قدرة الشعب على الدفاع عن نفسه،يُعترف نصًّا بحقّ الشعوب في حماية النفس والوجود، ويُتفق على فصلٍ قانوني وتقني بين "وسائل الهجوم"،و"وسائل الدفاع المحليّة"مع آلية تحقق فلسطينية-عربية مستقلة.

إلزامية الضمانات التنفيذية: أي وعود مستقبلية (أفق الدولة، تسليم الصلاحيات)تُصاغ في شكل نصوصٍ قانونية مُلزمة زمنيًّا ومؤسسيًّا، مع جدول زمني تحققي ومؤشرات أداء قابلة للمراجعة والعقاب.

إشراك فلسطيني موثوق: تشكيل أي حكومة انتقالية يجب أن يكون بمبادرة فلسطينية أولًا وباتفاق وطني يضمّ مرجعيات تمثيلية (ممثلو القوى والفصائل والهيئات المدنية)لا بفرض خارجي،وإذا جرت إشراكيات دولية فلتكن بدور تكميلي تقني وإسنادي لا وصاية سياسية.

آليات رقابية عربية-إسلامية: توثيق إشراف عربي-إسلامي متساوٍ إلى جانب أي إشراف دولي كضامنٍ إضافي، لتقليل مخاطر الانفراد بملفات الأمن والسياسة من قبل ضامن وحيد.

حماية المكتسبات الاعتبارية والميدانية: نصوصٌ واضحة تعترف بالمكتسبات السياسية والدبلوماسية التي نتجت عن "طوفان الأقصى" (مكاسب شعبية، تعبئة دولية، تغيير رواية)، وتعدّ آليات لاستعادتها إنْ طعنتْ أو تعرّضت للخطر.

ضمانات الإعمار وغير قابليته للابتزاز: فصل مشروعات الإغاثة عن المساومات السياسية؛ توفير قنوات تقديم مساعدات تحت رقابة فلسطينية وتشريك فاعلين عرب وإسلاميين مستقلّين بحيث لا تكون المساعدات رهينة شروط نزع حقوق.

آلية عقابية فورية: فرض آليات سريعة لوقف أي خرق، تُفعّل فورًا -اقتصادية أو قانونية أو سياسية - ضدّ أي طرف يخرق نصوص الاتفاق، مع منح الشعب الفلسطيني حقَّ اللجوء إلى محاكم دولية أو هيئات عربية لمنع الانتهاكات.

خلاصة القول هنا أن الخطة -في عناصرها الإنسانية -تُلامس بعض مقاصد الشريعة وتستدعي القبول المرن بشرط أنها لا تَقْضِي على الغاية الكبرى: التحرير والوجود والقدرة على الدفاع، أما البنود التي تمسّ القدرة الدفاعية والسيادة فتمثل إخلالًا بمقاصد الشريعة إذا قُبِلت بلا ضمانات؛ لذا يصبح المسار الصحيح شرعًا وسياسةً: الإفادة من عناصر الرأفة والإنقاذ دون تسليم ركنيّات القدرة الوطنية؛ أي مرونة تحفظ النفوس الآن، وثبات يحفظ أدوات التحرير غدًا.

بعد هذا التطواف مع هذه النازلة الكبرى، يتبيّن أنّ خطة البيت الأبيض -على ما تحمل من عناوين إنسانية كوقف نزيف الدماء وإعادة إعمار ما دمّرته الحرب -إنما تنطوي في عمقها على مشروع لإعادة تشكيل المشهد الفلسطيني بما يُفرِّغ المقاومة من أدواتها، ويُعيد فرض وصاية دولية على القرار الوطني، ويؤجّل الحق السياسي الفلسطيني في تقرير المصير إلى أفقٍ غامضٍ ومؤجَّل.

وفي ضوء قواعد السياسة الشرعية، تبيّن أنّ الموقف لا بد أن يفرّق بين ما يجوز القبول به مرونةً لإنقاذ الأنفس وتخفيف الكارثة، وما يجب رفضه صرامةً وثباتًا حفاظًا على السيادة والقدرة الدفاعية،فالهدنة المؤقتة إذا ارتبطت بضمانات عربية وإسلامية قابلة للتحقق فهي مشروعة، وتبادل الأسرى عمل إنساني مشروع، والإعمار واجب لا يجوز أن يكون مشروطًا،أما نزع السلاح، أو إقصاء المقاومة، أو فرض وصاية دولية على غزة؛ فذلك خط أحمر شرعي وسياسي لا يُقبل بحال.

إنّ السياسة الشرعية توازن بين حقن الدماء وحماية مكتسبات المقاومة، وبين إنقاذ المدنيين وصون الإرادة الوطنية،فهي لا تدعو إلى عنادٍ أعمى ولا إلى خضوعٍ مذل، بل إلى مرونة تحفظ الأنفس وثبات يحمي الثوابت،وإنّ حفظ مكتسبات "طوفان الأقصى – "التي أعادت الاعتبار للقضية الفلسطينية وأثبتت أنّ الإرادة الشعبية قادرة على قلب الموازين -واجبٌ شرعي واستراتيجي؛ لأنه الضمانة الوحيدة لاستمرار مشروع التحرير وعدم انطفاء جذوته.

وعليه، فإنّ أي مسار تفاوضي أو سياسي يجب أن يُبنى على شروط واضحة: لا وقف نار بلا انسحاب فعلي، لا إعمار بلا سيادة، لا تبادل بلا كرامة، لا إدارة بلا شورى، ولا أمن بلا حق المقاومة..هذه الضوابط وحدها تجعل من أي اتفاق وسيلة لتخفيف المعاناة اليوم، وركيزة لمشروع التحرير غدًا،وبدونها، فإنّ الخطة لن تكون سوى غطاء لإعادة إنتاج الاحتلال في ثوبٍ جديد.

ومن واجب العلماء والمفكرين والقادة أن يذكّروا الأمة بأن السياسة في الإسلام ليست فنّ الممكن بمعناه النفعي الضيق، وإنما هي فنّ تحقيق المقاصد وحراسة القيم وحفظ الحق والعدل، فإذا تواطأ العالم وخذل القريب والبعيد، فإن صوت السياسة الشرعية يظلّ شاهدًا على الحق، حافظًا للبوصلة، داعيًا إلى أن تبقى المقاومة -بأشكالها المشروعة كافة -عنوانًا لصمود الأمة حتى ينجلي ليل الاحتلال، ويُكتب لفلسطين فجر التحرير الكامل بإذن الله تعالى.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025