كيف يبالغ الساسة؟ ومتى يخطئ الجواسيس* حديث في الكُليات

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

أولاً: بين يدي الحديث:

تحدثنا طويلاً حول الحرب؛ أسباباً ومُسببات، وأهدافاً وغايات، وقلنا كما قال غيرنا أن الحرب هي إمتداد للسياسة، ولكن بوسائل خشنة دموية. وفي ذات السياق؛ تحدثنا عن طرق ووسائل حصول الدول على مصالحها الحيوية، وكيف تدافع عنها، حيث ذكرنا في حينيه أن الدول، وبحثاً عن تأمين مصالحها الحيوية والدفاع عنها، تلجئ إلى الفعل السياسي، وأدواته الدبلوماسية المختلفة، ثم تُصعّد من فعلها إلى إن تلبيهذه الوسائل الغرض وتحققه، فتمارس ضغوطاً اقتصادية ودبلوماسية، وصولاً إلى حصار خصومها، وعزلهم دولياً، وإقليمياً، كما تعبئ الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي ضده، ممهدة ــ الدول ــ بذلك الطريق نحو آخر الدواء، ألا وهو الكي(إقرأ الحرب). إذن فالحرب هي المؤشر والقرينة والدليل على فشل السياسة ودروبها! ولا يُلجئ لها إلّا كحل أخير، وبعد أن تستنفد باقي الحلول وطرق العمل، ولا يؤذن بخوضها إلّا بعد تحضير مقدماتها، وبحث تفاصيل التفاصيل فيها؛ السياسية والعسكرية والاقتصادية والإجتماعية و...، كما يخطط لها بناء على القدرات الذاتية؛ أولاً وأخيارً، وليس استناداً إلى الأمانيوالرغبات، وما يمكن أن يُحصل من عون و(فزعات)، ثم تُخضع بعد ذلك لحساب الجدوى والأكلاف، فلا تفتح نار حرب أكلافها أكبر من الجدوى منها؛ ما لم تكن من نوع حروب اللاخيار؛ المفروضة فرضاً، والمدفوعٌ لها دفعاً.

ومن جوامع كلم سبب نشوب الحروب واشتعالها؛ ما قيل من أنها تقع عندما يبالغ الساسة، ويخطئ الجواسيس(إقرأ ضباط المعلومات ومختصيها)، حيث تشكل هذه الجملة القصيرة، وما يمكن أن يُستنتج منها،  وما يقال عنها، أفضل ما قيل في الحروب، سبباً، ومنشأً. هنا؛ تأتي هذه الورقة للحديث عن بعض ما يمكن أن يشكل أهم مكامن مبالغة الساسة، وخطأ الــ(جواسيس)، عَلّنا بهذا نسهم في تجلية بعض أسباب خيار الكُره هذا، والذي لا يُلجئ له إلّا كآخر دواء في جعبة (هواة) السياسة و(سحرتها). إلّا أننا سنتحدث قبل الخوض في أصل الموضوع حول عنوانين رئيسيين فيما يخص أصل مهام الساسة وضباط المعلومات وأفرادها. حيث لا تستقيم الإشارة إلى مكان المبالغة، أو مجال الخطأ، مالم يتم إبتداءً الحديث عن أصل مهمة كلا التوصيفين الوظيفيين وشُغلهما.

ثانياً: المهام الكلية لرجال السياسة:

تتمثل المهمة الرئيسية لرجال السياسة في الدول والحركات السياسية بالعمل على المحافظة على وحدة وسيادة أرض الدولة الجغرافية، ومكوناتها الديموغرافية، وتأمين مصالحها الحيوية والدفاع عنها، ومنع الأغيار من تجاوز الخطوط الحمر التي توضع للدلالة والإشارة على هذه المصالح، وتلك المحرمات. من هذه المهمة الكلية، تشتق باقي مهام الساسة والسياسيين، ورجال الدولة، وفنانوا الدبلوماسية وأساطينها.ويقاس مقدار نجاحهم وفلاحهم بالقدر الذي يحققوه من تأمين تلك المصالح، كما بالقدر الذي يحمونها من طمع الطامعين، وجشع المعتدين. مستخدمين في سبيل ذلك كل ما وضع تحت سلطتهم من قدرات وإمكانات وأصول؛ بشرية ومادية، منحت لهم كوكلاء عن أصلاء، هم ـــ الأصلاء ــــ مكونات الشعب وأهل البلد؛ حيث الشعب هو مصدر السلطات، وصاحب السيادة، التي يمارسها عبر مؤسسات الدولة، وهياكلها الإدارية والسياسية، المُدارة عبر أولئك الوكلاء. هذا باختصار شديد.

ثالثاً: المهام الكلية لضباط المعلومات:

حيث أن أساس، ومرتكز، ولازمة أي قرار في سياق تأمين المصالح والدفاع عنها في الدول المستقلة المستقرة، والحركات السياسية والعسكرية، الركيزة هي المعلومات الصلبة، أو التقديرات المستقاة من المعطيات المُعتد بها، حيث أن الأمر كذلك؛ كان تشكيل أجهزة الأمن؛ الداخلية منها والخارجية؛ لتأمين الجيد والصلب من هذه البضاعة التي تعد مادة استهلاك، ومطلب أي سياسي أو قائد، ولّي مسؤولية شعب، أو حركة، أو حزب، أو تنظيم. وبالقدر الذي تكون فيه هذه المعطيات دقيقة، وأقرب إلى الصواب والحقيقة؛ بالقدر الذي يكون فيها القرار أقرب للصواب، والتقدير أقرب للواقع. إذن فالمهة الكلية لضباط المعلومات هي: القدرة على فهم الاحتياج المعلوماتي المطلوب لجعل القرار أقرب للصواب، والتقدير أقرب للواقع. وحتى تقوم هذه الشريحة من عُمّال الدولة، أو التنظيم أو الحركة بهذه المهمة على أكمل وجه؛ توضع بين أيديهم قدرات وإمكانات، ويمنحو من الصلاحيات في بناء مصادر المعلومات وشبكاتها، البشرية والتقنية، المفتوحة منهاوالمغلقة، ما يُمكّنهم من تحصيل أجود المعلومات، وأفضل المعطيات، لمعرفة نوايا الأعداء، ومكنونات صدورهم وعقولهم. وفي هذا تفصيل يطول، نترك البحث فيه لأهل الحرفة والاختصاص.

بهذا نكون قد أشرنا بشكل سريع إلى المهام الكلية لرجال السياسة، وضباط المعلومات، لتكون هذه الإشارة هي المرجع الكلي الذي يُرجع له للحكم على مبالغة الساسة، أو خطئ الـ(جواسيس).

رابعاً: كيف يبالغ الساسة؟

لن نتحدث مطولاً في هذا الجزء من المقالة، ولن ندخل في التفاصيل، حتى لا يطول بنا المقام والمقال، وسنكتفي بالإشارة إلى بعض أهم المكامن التي يبالغ فيها الساسة، فيخرج الموقف عن السيطرة، وتعجز فنون الدبلوماسية عن تأمين المصالح والدفاع عنها، فتفشل السياسة، ثم تقع الحرب. فكيف يبالغ الساسة؟

1. عند تعريف المصالح الحيوية المطلوب تحصيلها و/ أو الدفاع عنها.


2. عند وضع التدابير والتوجيهات الكلية ـــ السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والمجتمعية ــــ المطلوب اتخاذها لتحصيل هذه المصالح و/ أو الدفاع عنها.


3. عند تعريف التهديدات والمخاطر الناتجة عنها، وسبل مواجهتها أو الوقاية منها.


4. عند تحديد الخطوط الحمر، ومناطق الحرام، و(حِمى) الدولة أو الحركة أو التنظيم، المطلوب عدم الاقتراب منه.


5. في الخلط بين المصالح الخاصة؛ الشخصة أو الحزبة، المتعلقة بالذات أو الحزب، والمصالح العامة المرتبطة بمكونات الدولة أو الحركة أو التنظيم أو الشعب والأمة.


6. عند توصيف وتعريف الأعداء، أو الخصوم، أو الأصدقاء، أو الحلفاء. فالمباغلة في التوصيف؛ سلباً أو إيجاباً؛ قد تفضي إلى ما لا تحمد عقباه.


هذه كليات تؤدي المبالغة فيها؛ توصيفاً وتعريفاً إلى فشل أدوات السياسة في تحصيلها، وإخفاق وسائط الدفاع في تأمين حماها والذود عنها.

خامساً: متى يخطئ ضباط المعلومات؟

أما عن خطئ ضباط المعلومات، فيمكن تقصي أثره في كثير من الخطوات والإجراءات، نأتي على أهمها،وهي:

1. في القدرة على فهم واستيعاب التدابير القيادية المطلوب رعايتها لتنفيذ المهام السياسية أو العسكرية أو الأمنية.


2. في القدرة على استنباط ومعرفة الاحتياج المعلوماتي المطلوب تأمينه لــ(مطابخ) القرارات، وأصحاب السلطة التنفيذية.


3. في توصيف التهديد والمخاطر الناتجة عنه، ومؤشرات وقرائن تبلوره أو خروجه إلى حيز الإجراء.


4. في عملية تحويل الأخبار والمعطيات الخام، باستخدام تقنيات وفنون القراءة والتحليل، إلى معلومات صلبة يمكن الاستفادة منها، والبناء عليها في صوغ التقديرات، وفهم النوايا والمكنونات.


5. في بناء جسم مناعي يحمي (ممرات) و( معابر) مرور المعطيات والمعلومات من العبث بها، أو التأثير السلبي عليها.


هذا أيضاً باختصار شديد، حيث أن المجال، مجالٌ فني تخصصي، يطول فيه الحديث، بين ما هو فن وما هو علم، ويختلط فيه ما هو قدرات شخصية، بما هو أدوات تقنية وفنية، لذلك نكتفي بهذا القدر، من التوصيف والتعريف.

سادساً: الخلاصة:

إن ما يقي الساسة من المبالغة، ويحمي الـ(جواسيس) من الخطأ، إنما يكمن في التعريف الدقيق لمهام كلاالطرفين، وتحديد الثوابت التي لا يمكن، وغير مسموح تجاوزها أو التعدي عليها أثناء تنفيذ تلك المهام والواجبات، ثم وجود جهات رقابة فنية ذات اختصاص، تشرف على، وتراقب عمل رجال السياسة وضباط المعلومات وأجهزتها، وكيف يستخدمون ما يوضع بين أيديهم من قدارت، وما يُفوض لهم من صلاحيات وسلطات، وقبل هذا، ومعه وبعده، معية الله وفضله. وهو سبحانه، غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

عبد الله أمين

22 10 2025



جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025