مركز مالكوم كير
ترجمة حضارات
الحرب اللامتناهية في القطاع ترسم ملامح مستقبلٍ من البؤس اللامتناهي.
تتناهى إلى مسامع سكّان غزة أخبارٌ مفادها أنهم سينجون من الموت، وأن بإمكانهم البقاء في أيّ مأوى مرتجَل يجدونه. لكن كلّ الجهود الأخرى تتداعى، على الرغم من النشاط الدبلوماسي الرفيع المستوى وما يفضي إليه من مداولات لصياغة قرارات جديدة. وبينما يشعر سكّان القطاع بأن الوضع لا يُحتمل، لا تجد الأطراف الأساسية الأخرى ضيرًا في استمراره. والأسوأ من ذلك هو المساعي الواضحة للترويج لجحيم البؤس هذا، ليس بوصفه واقعًا يمكن احتماله فحسب، بل كخيارٍ مثاليّ قابل للاستمرار لأجلٍ غير مسمّى.
منذ بداية الحرب على غزة قبل أكثر من عامين، تغاضى الدبلوماسيون والمحلّلون عن أهوال الميدان، متطلّعين إلى آفاق مستقبلٍ مختلفٍ وأفضل حالًا. ويمكن تفهّم هذا الميل إلى التفاؤل البنّاء، إلا أنه أدّى إلى نوعٍ من التغافل، ليس فقط عمّا كان يحدث فعليًا، بل أيضًا عمّا كان يُرجَّح أن يحدث لاحقًا، والأهم، عمّا كانت الحكومة الإسرائيلية نفسها تعلن أنها تفعله. فمنذ البداية، ساهمت تلك الخطط الإيجابية (أو بالأحرى الأمنيات) بشأن "اليوم التالي" في حجب الحقيقة المهولة، ومفادها أن هذه الحرب "قد لا يأتي بعدها يوم تالٍ أساسًا". وما زال هذا التغافل الدولي قائمًا اليوم، إذ يشهد الميدان حالةً من الجمود خلف واجهة من الحراك الدبلوماسي الذي أثارته خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المؤلّفة من عشرين بندًا.
غير أن الحقيقة المرّة التي تُفرغ تلك الخطة من أيّ جدوى هي أن أحدًا لم يوافق عليها بعد. فبوادر التنفيذ الجديّ لا تظهر إلا في ثلاث نقاط فقط: وقف إطلاق النار، وإعادة انتشار القوّات الإسرائيلية، وتبادل الأسرى والجثامين بين الفلسطينيين والإسرائيليين. أما بقية البنود، فهي في معظمها أهداف مبهمة تفتقر إلى آليات تنفيذ واضحة، وهذا مقصود لسبب محدد: فالعناصر الرئيسية التي تضمن قبول أيّ طرف بالخطة، حتى لو صوريًا، تُواجَه برفض صريح من الأطراف الأخرى. فبعض الدول العربية يشترط إعطاء دور ما للسلطة الفلسطينية والإشارة إلى إقامة دولة فلسطينية، بينما ترفض إسرائيل هذين الشرطين رفضًا قاطعًا.
فلماذا التظاهر بأن الواقع مختلف؟ من الطبيعي أن يشعر البعض بالارتياح لوقف معظم الأعمال القتالية (وليس كلّها) ولإطلاق سراح عدد كبير من المحتجزين. لكن البعض الآخر يخدعون أنفسهم، إذ إن معظم الأطراف قرنت رفضها الصارم لعناصر معيّنة من خطة ترامب بمدح الرئيس الأميركي، في الوقت الذي تراجع فيه ترامب نفسه عن البند الفضفاض الذي يشير إلى أن الفترة التي تلي إعادة الإعمار والإصلاح "قد تتوافر فيها أخيرًا الظروف التي تتيح شقّ مسار موثوق نحو تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما نعترف به بوصفه طموحًا للشعب الفلسطيني". وبدلًا من تسهيل هذا المسار، لا يزال الرئيس في حيرة من أمره، إذ قال: "الكثير من الناس يفضّلون حلّ الدولة الواحدة، والبعض يفضّل حلّ الدولتين. سنرى. لم أُعلّق على هذه المسألة بعد".
فهل من أمل في المضي قدمًا؟ حاليًا، ثمّة خياران مطروحان، ولا يُجدي أيٌّ منهما نفعًا. الخيار الأول هو السعي إلى تنفيذ بعض إجراءات الإغاثة وإعادة الإعمار والإدارة التي تخفي الخلافات ولا تعالجها، بما يحقق شكلًا من أشكال الالتزام بخطة ترامب، ولكن من دون تأثير حقيقي طويل المدى. فعلى سبيل المثال، في حال تشكيل "قوة الاستقرار الدولية"، فمن غير المرجَّح أن تحقق الكثير في ما يتعلّق بحفظ الأمن أو العمل الشرطي أو نزع السلاح أو انسحاب القوات الإسرائيلية. وإذا أُرسلت مجموعة من الخبراء المكلّفين من جهات دولية لإدارة بعض مناطق غزة، فربما يتولّى أعضاؤها مناصبهم فعلًا، لكن من غير الواقعي الاعتقاد بأنهم سيُستقبلون بالترحاب لمجرّد أن بعضهم مسلمون أو عرب، أو أنهم سيتمكنون من بناء منظومة حكم جديدة معادية لحماس.
هذا المسار يحقق تقدمًا على الورق فقط. أما المسار الثاني، فلا يحقق تقدمًا إلا في مخيّلة البعض. إذ يظنّ عدد من المراقبين أنهم قادرون على تطبيق الخطة من خلال الادّعاء (أو الدعاء) بأن الأطراف الرئيسة ستتخذ إجراءات لا تخدم مصالحها—إجراءات سبق لتلك الأطراف أن أكدت مرارًا، وبوضوح، أنها لن تتخذها إطلاقًا. يمكن بالطبع إحراز تقدّم لو وافقت إسرائيل على منح السلطة الفلسطينية دورًا فاعلًا في غزة والتزمت بحلّ الدولتين. لكنها لن تفعل ذلك. كما يمكن إحراز تقدّم لو وافقت الدول العربية على العمل، بتوجيه من الولايات المتحدة، لاستكمال تدمير حركة حماس بعدما عجزت القوات الإسرائيلية عن ذلك. لكنها هي الأخرى لن توافق.
فما مصير غزة في ظل هذا الواقع؟ ينقسم القطاع حاليًا إلى منطقتين. تحتل القوات الإسرائيلية الأراضي الواقعة على أحد جانبي "الخط الأصفر" الجديد، ولا تسمح لحماس بالعمل هناك. وتوافق إسرائيل على دخول المساعدات وحتى على بعض عمليات إعادة الإعمار في تلك المنطقة، لكنها لا تبدي أي اهتمام بإنشاء نظام حكم أو إدارة فعالة. ويُسمح للعشائر المتعاونة مع إسرائيل بالعمل، لكن ليس كهيئات حاكمة، بل كميليشيات وشبكات محسوبيات.
وعلى الجانب الآخر يعيش معظم سكّان غزة، حيث عادت حماس إلى الظهور وتفرض حضورها بقسوة أحيانًا، من دون أن تنجح في إنشاء نظام فعّال قادر على إدارة الخدمات الأساسية. ولا تلوح أي عملية إعادة إعمار جدية في الأفق. فالتعليم، مثلًا، يُستأنف ببطء، لكن في ظل دمار معظم المدارس أو تضررها، وتحويل الكثير منها إلى ملاجئ مؤقتة، تبدو العودة التعليمية محصورة إلى حدّ كبير بالدروس الإلكترونية (نظرًا إلى تعذّر إدخال المواد التعليمية إلى القطاع).
إعادة الإعمار شبه مستحيلة في ظل هذه الظروف. وحتى إيصال الإمدادات الأساسية ليس مضمونًا. تسمح إسرائيل بين حين وآخر بوصول المساعدات إلى المنطقة الخارجة عن سيطرتها، لكنها منعت الجهات الأكثر خبرة في العمل الإنساني من المشاركة. وعلى الرغم من أن خطة ترامب كانت دقيقة بشكل غير معتاد في هذه النقطة، فإن وعدها ظلّ حبرًا على ورق. إذ نصّت على أن "دخول المساعدات إلى قطاع غزة وتوزيعها سيتمّ من دون تدخل أيّ من الطرفين، ومن خلال الأمم المتحدة ووكالاتها والهلال الأحمر، إضافة إلى مؤسسات دولية أخرى غير مرتبطة بأيٍّ من الطرفين". لكن إسرائيل لا تكتفي بمنع معظم هذه الجهات من العمل بحرية، بل تواصل أيضًا توجيه اتهامات لاذعة ولا أساس لها بحق وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، مساويةً إيّاها على نحو غير مقنع بحركة حماس. ومع أن معظم المنظمات غير الحكومية لم تتعرّض لمثل هذه الافتراءات، إلا أن حفنة قليلة فقط يُسمح لها بالعمل بحرية.
نصل الآن إلى التطور الأكثر إثارة للقلق: وجود مؤشرات على أن الوضع الراهن في غزة ليس مجرد نتيجة مؤسفة للجمود الدبلوماسي، بل هو خيار يسعى البعض إلى اعتماده. فبما أن إسرائيل قادرة على تكبيد حماس خسائر كبرى من دون القضاء عليها، يحثّها البعض على تحويل الجمود الحالي إلى استراتيجية. ووفق هذا التصور الجريء، ستكون الأراضي التي تحتلها إسرائيل في غزة مناطق تزدهر فيها عمليات إعادة الإعمار، وتتوافر فيها السلع الأساسية، ويشارك سكانها في "بناء مجتمع أفضل". أما المناطق الأخرى الخارجة عن سيطرة إسرائيل، فستواصل حماس نشاطها فيها، وسيعيش سكانها تحت وطأة الحرمان والدمار.
لماذا يُحكَم على عدد كبير من الناس بالعيش في الخيام والاعتماد على مساعدات إنسانية غير مضمونة؟ معظم الذين يروّجون لهذا المسار يتجاهلون ببساطة حجم الدمار الهائل الذي لحق بغزة، وكيف بات معظم سكان القطاع يكافحون للبقاء على قيد الحياة. لكن تجاهل هذا البؤس ليس صدفة، إذ إن المسار المقترح يعتمد كليًا على إبقاء الفلسطينيين في حالة من المعاناة بين الأنقاض في أيّ منطقة لا تزال حماس موجودة فيها.
وبحسب هذا المنطق، يُفترض أن تُفضي مأساة سكان غزة إلى تآكل شعبية حركة حماس، وأن تُظهر المناطق المزدهرة على الجانب الإسرائيلي من "الخط الأصفر" الثمن الباهظ الذي يدفعه الفلسطينيون في المناطق الأخرى، ما قد يغيّر مواقفهم في نهاية المطاف. ويظنّ البعض أن هذا السيناريو يشبه ما حدث لكسب العراقيين الشيعة والسنّة بعيدًا عن الصدريين والجهاديين قبل عقدين. وحتى الذين يعترفون بخطر أن يتحوّل "الخط الأصفر" إلى حدود غزة الجديدة، من دون القدرة على التعامل مع هذا الخطر، تبنّوا هذه الفكرة.
الحجج التي يقوم عليها هذا الطرح غير مقنعة، وربما لم تتبلور بعد على شكل سياسة متسقة، إلا أن جاريد كوشنر عبّر مؤخرًا عن نسخة مخففة منه حين قال: "لن تُخصَّص أي أموال لإعادة إعمار المناطق التي لا تزال تسيطر عليها حماس". وأيّد جي دي فانس ما بدا أنه نسخة مشابهة، حين قال: "هناك منطقتان أساسيتان في غزة: الأولى يعيش فيها ربما مئة إلى مئتي ألف من سكان غزة، وهي خالية إلى حد كبير من حماس – ليست خالية تمامًا – لكنها نوعًا ما آمنة. أما المنطقة الثانية، فنسمّيها "المنطقة الحمراء"، حيث لا تزال حماس تتمتع بوجود ملحوظ، وهي منطقة خطرة. نعتقد أنه يمكن البدء بإعادة إعمار المناطق الخالية من حماس بسرعة، وربما إعادة مئات الآلاف من السكان إليها... الفكرة هي أن نرى المناطق الخالية من حماس، وأن نبدأ بإعادة الإعمار فيها بسرعة، وأن يعود الناس ليعيشوا ويحصلوا على أعمال جيدة وينعموا بالأمان والراحة".
السؤال الأساسي الذي يجب على المحلّلين طرحه الآن ليس ما إذا كان المسار نحو حلّ الدولتين قد تبلور فجأة، بل ما إذا كانت معاناة العامين الماضيين ستصبح جزءًا بنيويًا من النظام الإقليمي. فما بدا وكأنه حرب لامتناهية قد يكون في طور التحول إلى مأساة دائمة.