مركز سيتا التركي
غْلوريا شكورتي أوزدمير
الطلب المتصاعد للذكاء الاصطناعي على الطاقة يُعيد تشكيل الجغرافيا السياسية، إذ تصبح الطاقة مفتاح الهيمنة الرقمية.
يُشاد بالذكاء الاصطناعي باعتباره التكنولوجيا الحاسمة في القرن الحادي والعشرين. فالنماذج اللغوية الضخمة، والأدوات التوليدية، وروبوتات المحادثة تهيمن على الخيال العام، واعدةً بتحويل الصناعات والحياة اليومية. لكن خلف هذا الحماس تكمن حقيقة أقل جاذبية: الذكاء الاصطناعي يستهلك كميات هائلة من الكهرباء. ومن دون توفر طاقة وفيرة وموثوقة، قد تتعثر الثورة الموعودة للذكاء الاصطناعي.
الأرقام واضحة. فوفقًا للوكالة الدولية للطاقة (IEA)، استهلكت مراكز البيانات حول العالم نحو 415 تيراواط/ساعة من الكهرباء في عام 2024، أي ما يعادل 1.5% من إجمالي الاستهلاك العالمي. وقد شكّلت الولايات المتحدة والصين وحدهما 70% من هذا الطلب، مما يبرز كيف أن القوة الرقمية للذكاء الاصطناعي تتركز بالفعل في عدد محدود من المناطق الجغرافية. وبحلول عام 2030، قد يتضاعف الطلب العالمي لمراكز البيانات تقريبًا ليصل إلى 945 تيراواط/ساعة، وهو أعلى من الاستهلاك الحالي لليابان. وعلى خلاف موجات الرقمنة السابقة، تُعد أحمال الذكاء الاصطناعي المحرك الأكبر لهذه الزيادة. لذلك، أصبح التحدي واضحًا: كيف يمكن للدول أن تبقى في طليعة الذكاء الاصطناعي بينما تلتزم بأهداف المناخ وتتجنب أزمات الطاقة؟ هذا السؤال يتحول سريعًا إلى أحد أهم الأسئلة الجيوسياسية في عصرنا.
شهية الذكاء الاصطناعي المت spiraling
يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى كميات من الكهرباء تفوق بكثير تلك الخاصة بالخدمات الرقمية التقليدية. فاستعلام واحد في ChatGPT قد يستهلك طاقة أكبر بعشر مرات من عملية بحث في Google. كما أن تدريب نموذج متطور يحتاج إلى ميغاواطات من الطاقة المستمرة لأسابيع. في الولايات المتحدة، استهلكت مراكز البيانات 176 تيراواط/ساعة في عام 2023، أي 4.4% من الكهرباء الوطنية، ويتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 6-12% بحلول 2028. أما الصين، فطلبها الذي ينمو بمعدل 15% سنويًا منذ 2015، بلغ 100 تيراواط/ساعة، ويمثل ربع الإجمالي العالمي. ومع أوروبا، تمثل هذه القوى مجتمعةً نحو 85% من الاستهلاك العالمي.
لكن المسألة لا تتعلق فقط بسخونة الخوادم في وادي السيليكون أو شنتشن، بل بإعادة تشكيل شبكات الكهرباء بأكملها. ففي إيرلندا، حيث تستهلك مراكز البيانات العملاقة نحو خُمس الكهرباء الوطنية، اضطر مشغل الشبكة إلى تقييد وصل مراكز بيانات جديدة. وظهرت مخاوف مشابهة في هولندا وسنغافورة وحتى في أجزاء من الولايات المتحدة. والسؤال الذي يواجهه صُناع القرار ليس ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيستهلك المزيد من الطاقة – لأنه بالتأكيد سيفعل – بل ما إذا كانت الشبكات قادرة على التكيف سريعًا من دون خرق التزامات المناخ أو إشعال غضب شعبي بسبب ارتفاع الفواتير.
البحث عن الطاقة
من أين ستأتي هذه الكهرباء؟ في الوقت الحالي، تستمد مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي طاقتها من نفس الشبكات المعتمدة على الوقود الأحفوري التي تغذي بقية الاقتصاد. ولا تزال الفحم والنفط والغاز تشكل أكثر من 80% من الطاقة الأولية عالميًا. في الولايات المتحدة وأوروبا، أصبح هذا الاعتماد غير مستدام سياسيًا. إذ تدفع واشنطن وبروكسل الشركات التكنولوجية لتوقيع عقود طويلة الأجل للطاقة المتجددة. كما يستهدف كل من “الصفقة الخضراء” الأوروبية وقانون خفض التضخم في الولايات المتحدة، ليس فقط خفض الانبعاثات الصناعية بل أيضًا “تنظيف” القطاع الرقمي.
أما في أماكن أخرى، فالصورة مختلفة. فكل من الصين والهند لا تزالان تعتمدان على الفحم، لكنهما تجربان التوسع النووي ونشر مصادر الطاقة المتجددة بوتيرة قياسية لمواكبة نمو الذكاء الاصطناعي. أما دول الخليج، فهي تستغل اللحظة من خلال ربط الاستثمارات الرقمية بمشاريع ضخمة للطاقة الشمسية والنووية. فالإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، تسوق نفسها كمركز لـ«الحوسبة الخضراء»، على أمل تصدير خدمات الذكاء الاصطناعي عبر كهرباء نظيفة.
ومع ذلك، لا يمكن للطاقة المتجددة وحدها تحمّل العبء. فطاقة الرياح والشمس رخيصة وسريعة البناء، لكنها متقطعة. وتتوقع الوكالة الدولية للطاقة أن إنتاج الكهرباء من الغاز الطبيعي سيزيد بـ175 تيراواط/ساعة بحلول 2030 لتغطية طلب مراكز البيانات، مما يعني تكريس البنية التحتية الأحفورية في الوقت الذي يُفترض فيه التخلص منها. ولذلك، يشهد النووي عودة باعتباره خيارًا منخفض الكربون لتوفير الطاقة المستمرة. إذ بدأت شركات التكنولوجيا الأميركية، مثل Google وAmazon، بتوقيع اتفاقيات شراء كهرباء مع محطات نووية، بينما يراهن صانعو القرار على المفاعلات الصغيرة المعيارية لتدخل الخدمة في أوائل الثلاثينيات.
ثم يأتي الاندماج النووي (Fusion). ورغم أنه لطالما عُدّ “على بعد عقود”، إلا أنه بات يجذب مليارات الدولارات. وتشير صفقات Google عام 2025 لدعم وشراء طاقة الاندماج مستقبلًا إلى قناعة بأن الذكاء الاصطناعي سيحتاج إلى أنماط جديدة كليًا من الطاقة. كما تستثمر الصين بين مليار و1.5 مليار دولار سنويًا في برنامجها للاندماج النووي. ورغم أن تجاريته ما تزال غير مؤكدة، فإن مجرد وجوده على الطاولة يعكس مدى تأثير الذكاء الاصطناعي على خيال الطاقة لدى الدول والشركات.
هل يمكن للذكاء الاصطناعي حل مشكلة استهلاك الطاقة؟
هناك مفارقة: فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد مستهلك شره للطاقة، بل يمكن أن يكون أيضًا أداة لتوفيرها. إذ يمكن لتقنيات التعلم الآلي توقع الطلب، وموازنة إمدادات الطاقة المتجددة، وإدارة التخزين الموزع بكفاءة أعلى بكثير من الأنظمة التقليدية. ويقدر المنتدى الاقتصادي العالمي أن الأدوات المعززة بالذكاء الاصطناعي قد تخفض الانبعاثات العالمية بنسبة تصل إلى 10% بحلول 2030 – أي ما يعادل الانبعاثات السنوية للاتحاد الأوروبي.
ولتقديم مثال ملموس، حققت شركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك) وفورات قدرها 500 مليون دولار من خلال إدارة الطاقة بالذكاء الاصطناعي، وتجنب انبعاثات تعادل إزالة 200 ألف سيارة من الطرق.
لكن الكفاءة نفسها قد تحمل مخاطر. فمفارقة جيفونز – التي تقول إن زيادة الكفاءة تؤدي إلى زيادة الاستهلاك – تطل برأسها. فكلما أصبحت الحوسبة أرخص وأذكى، ازداد الطلب عليها. ومن دون قيود حكومية، قد يسرع الذكاء الاصطناعي الطلب على الطاقة بوتيرة تفوق قدرة الشبكات والسياسات المناخية على التحمل. هذا التوتر، بين الذكاء الاصطناعي كمنقذ ومُجهد في الوقت نفسه، هو جوهر النقاشات السياسية اليوم.
جيوسياسية جوع الذكاء الاصطناعي للطاقة
تعيد ثورة الذكاء الاصطناعي رسم خريطة الطاقة العالمية. لم يعد تدريب النماذج المتقدمة يعتمد فقط على الشرائح والمعطيات والمواهب، بل على ما هو أكثر أساسية: من يملك كهرباء موثوقة وكافية لتشغيلها. وبهذا، حوّل الذكاء الاصطناعي أمن الطاقة من مسألة تقليدية تتعلق بمنع انقطاع الكهرباء إلى قضية استراتيجية تتعلق بالحفاظ على الهيمنة الرقمية، وبالتالي إلى مسألة أمن قومي.
الصين تدرك ذلك أكثر من غيرها. فاستراتيجيتها في الذكاء الاصطناعي لا تنفصل عن التوسع الحكومي في الفحم والنووي والمتجددة. فمن خلال تأمين كهرباء على نطاق واسع، تضمن بكين أن شركاتها قادرة على تدريب الجيل التالي من النماذج دون انقطاع، حتى لو تعرضت الشبكة لضغوط.
أما الولايات المتحدة، فتتبع استراتيجية مختلفة تربط النمو الصناعي الرقمي بأجندتها الأوسع لإزالة الكربون. إذ يوفر قانون خفض التضخم حوافز ضخمة – منح وائتمانات ضريبية وقروضًا – لتحفيز الطاقة النظيفة والتصنيع منخفض الكربون. بينما يقدم قانون الرقائق والعلوم دعمًا موجهًا لضمان إنتاج أشباه الموصلات ومعدات الذكاء الاصطناعي داخل الأراضي الأميركية. وتهدف هذه السياسات، معًا، إلى ترسيخ نمو التكنولوجيا الرقمية داخل قاعدة صناعية نظيفة محلية، رغم التأخيرات الكبيرة التي واجهت بعض المشاريع.
تحاول دول الخليج تجاوز المراحل، من خلال تقديم نفسها كمصدّري «الحوسبة الخضراء» عبر مشاريع شمسية ضخمة وقدرات نووية. وبذلك تسعى للانتقال من تصدير النفط إلى تصدير البيانات، لا براميل النفط بل دورات الحوسبة. أما أوروبا، فتواجه مرة أخرى خطر الوقوع في الوسط؛ فأنظمتها المناخية الصارمة قد تعيق نشر الذكاء الاصطناعي ما لم توسّع طاقتها المتجددة بشكل أسرع أو تستورد كهرباء نظيفة من جيرانها.
النتيجة المحتملة لهذه التطورات هي عالم مقسم إلى «مناطق طاقة للذكاء الاصطناعي». فقد يتم نقل عمليات تدريب النماذج كثيفة الاستهلاك للطاقة إلى دول تملك طاقة وفيرة ورخيصة، مثل آيسلندا بالطاقة الحرارية الأرضية، وكندا بالطاقة الكهرومائية، أو الإمارات بالطاقة الشمسية المدعومة. بينما قد تبقى عمليات الاستدلال (Inference)، التي تتطلب زمن استجابة منخفض، أقرب إلى المستهلكين. لكن هذا التقسيم يخلق تبعيات جديدة. فكما شكل النفط التحالفات الاستراتيجية سابقًا، قد يصبح الوصول إلى «الحوسبة النظيفة» محددًا للعلاقات الدبلوماسية مستقبلًا. وقد يصبح استضافة مراكز البيانات حساسة سياسيًا مثل استضافة القواعد العسكرية.
وهذا يقود إلى خطر أعمق: اتساع الفجوة الرقمية بسبب عدم المساواة في الطاقة. فالدول المتقدمة القادرة على دعم الطاقة النظيفة للذكاء الاصطناعي ستتقدم بسرعة، بينما قد تتخلف الدول المتوسطة والمنخفضة الدخل، غير القادرة على إزالة الكربون ومنافسة الذكاء الاصطناعي في الوقت نفسه. وقد تعكس التداعيات السياسية ديناميات السياسة النفطية السابقة، من استياء واعتماد وهشاشة – لكن هذه المرة حول الكهرباء بدل النفط.
بالنسبة للقوى المتوسطة، يتضاعف التحدي، لكن الفرصة تتضاعف أيضًا. وتركيا مثال واضح. فطاقتها الحالية من مراكز البيانات لا تزال تحت التطوير، بقدرة تبلغ نحو 250 ميغاواط، تستهلك أقل من 0.5% من الكهرباء الوطنية. لكن استراتيجية الرئيس رجب طيب أردوغان للذكاء الاصطناعي لعام 2025 تضع هدفًا طموحًا: الوصول إلى 1 غيغاواط من القدرة بحلول 2030، بدعم استثمارات تتجاوز 10 مليارات دولار.
وهذا ليس رهانًا بسيطًا. ففي أوائل 2024، وصلت نسبة مصادر الطاقة المتجددة إلى 53% من كهرباء تركيا. وحدها الطاقة الشمسية تضاعفت خلال عامين لتصل إلى نحو 20 غيغاواط، متجاوزة هدف 2025 قبل موعده. كما ستوفر محطة أكّويو النووية، المؤلفة من أربعة مفاعلات والمنتجة لـ35 تيراواط/ساعة سنويًا، نحو 10% من الطلب الوطني قريبًا. إن هذا المزيج من الطاقة المتجددة الوفيرة والطاقة النووية الأساسية يمنح تركيا فرصة فريدة لتغذية اقتصادها الرقمي بالكهرباء منخفضة الكربون.
وتضيف الجغرافيا التركية ميزة إضافية. فبفضل موقعها بين أوروبا والشرق الأوسط والقوقاز، يمكن لأنقرة أن تطرح نفسها كمركز إقليمي للحوسبة. خدمات ذكاء اصطناعي منخفضة الانبعاثات وسريعة الاستجابة يمكن تصديرها إلى ثلاث قارات، مما يضع تركيا ليس فقط كمستهلك للأدوات الرقمية، بل كمزوّد للبنية التحتية الحيوية.
إن الذكاء الاصطناعي يُغير سؤال الطاقة من مسألة أمن إمداد إلى مسألة ميزة استراتيجية. فسباق الذكاء الاصطناعي يصبح، في جوهره، سباقًا على الطاقة: من يستطيع حشد «الواطات» لتشغيل «الأوزان» الخاصة بنماذج الذكاء الاصطناعي.
فبالنسبة للقوى الكبرى، يعني ذلك مواءمة السياسة الصناعية مع استراتيجية المناخ والطموح الرقمي. أما بالنسبة للقوى المتوسطة مثل تركيا، فيعني اغتنام الفرصة لتحويل الجغرافيا والانتقال الطاقي إلى نفوذ جيوسياسي.
الواضح أن ثورة الذكاء الاصطناعي لا يمكن فصلها عن ثورة الطاقة. فالدول التي تعالج المسألتين بمعزل ستتراجع، بينما تلك التي تربطهما سياسيًا وتقنيًا واستراتيجيًا ستسهم في تشكيل ليس فقط مستقبل الذكاء الاصطناعي، بل مستقبل ميزان القوى العالمي.