*عن رجال رفح في الخط الأصفر*

إبراهيم المدهون

كاتب ومحلل سياسي

مهموم، نعم، ومقهور حتى لا يكاد الصدر يتسع لهذا الوجع. ليس حزنا عابرا، بل ألم أمة بأكملها تدرك فجأة أنها كانت تمشي خلف رجال لو امتلكتهم إمبراطوريات لرفعت لهم الرايات وخشعت لهم ميادين الحرب. كيف امتلكنا هؤلاء ثم تركناهم وحيدين؟ كيف كان بيننا هذا المجد المتحرك، ولم نكن نحن على قدر حمله ولا على مستوى الوفاء له؟

إنهم رجال رفح، رجال العقد القتالية المتقدمة، أولئك الذين وقفوا على الخط الأصفر، الخط الذي لا يقف عليه إلا من كتب الله له قوة تتجاوز حدود البشر. سقطت الدنيا عنهم، انقطعت الأسباب، وبقي مُسبِّب الأسباب يتولاهم، يرعاهم، يحيطهم بجلاله، كأنهم في عين العاصفة وتحت عين الله معا.

واجهوا الخوف والجوع والوحدة والعزلة، لكنهم لم يقدموا للعالم صورة واحدة تشبه الانكسار. حتى في لحظات الأسر، وحتى حين كان الموت يقترب بخطاه الثقيلة، لم ينحنوا، لم يلينوا، لم يضعفوا. كانوا يواجهون النهاية كما يواجه الأبطال لحظتهم الأخيرة: صامتين، شامخين، كأنهم يشفقون على الدنيا من ضعفها.

لا نعرف كم منهم استشهد، ولا كم منهم ما زال يقاتل، ولا كم ابتلعهم الصمت تحت الركام. لكننا نعرف أنهم كانوا الأكثر نقاء، والأكثر صبرا، والأكثر استعدادا لأن يكونوا جدار الأمة حين تتصدع. هؤلاء ليسوا مجرد رجال، هؤلاء خلاصة الرجولة، صفوة الصفوة، تاج الرأس، ودمعة العظمة التي تسقط بصمت ولا يراها إلا القلب.

هؤلاء هم الذين حزن عليهم الحجر قبل البشر، وبكت عليهم الأرض التي رووها بدمائهم، وتثاءب الحزن في صدر الأمة كلما تذكرنا أننا لم نكن على قدر مجدهم، ولا على ارتفاع قامتهم. لكن عزاءنا الوحيد أن بثباتهم يُكتب النصر، وبصورهم التي لم تنكسر تعرف الأمم معنى الكرامة، وبأسمائهم ترفع غزة رأسها رغم كل ما نزل عليها من البلاء.

هؤلاء، يا أمة، هم الذين أثبتوا أن المجد لا يموت، وأن الطريق، مهما طال، نهايته وعد الله للصابرين.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025