(قصة قصيرة من قصص السجون)
بقلم/ وليد الهودلي
عانقني بحرارة، وقال بعفويّةٍ من أعماقه، ووجهٌ ممتقعٌ كالحٌ، يكاد الدم لا يصل إليه:
• جئتكم من المسلخ، بالخطأ ذهبوا بي إلى قسم غزّة، وأدخلوني زنزانةً... اللهمّ لطفك.
"التقط نفسًا عميقًا وصمت صمتَ القبور"، قلتُ له مهدّئًا:
• الآن، أخي، اهدأ وروّق، خذ نفسًا ولا تُرهق نفسك.
• وأنّى السبيلُ لهذا؟ هذا السجن، صحيح أنّه غير معقولٍ بظروفه القاسية، لكن الذي كنتُ فيه مسلخٌ وليس سجنًا!
• اشرح لنا ما رأيت، محسوبك صحفي، ممكن أكتب فيها قصةً صحفية.
"تنهد وهتف":
• قصةٌ صحفية؟ هؤلاء رجال، كلّ واحدٍ فيهم روايةٌ وملحمةٌ بحدّ ذاتها.
• لقد شوّقتنا، ماذا في جعبتك؟
"ابتلع ريقه، نظر في وجوهنا نظرةً سريعةً وتابع":
• هذه الغرفة مثلًا بالفعل غرفةُ سجن، أسرّةٌ وعليها فرشاتٌ وأغطية، تلبسون ملابس نوعًا ما ساترة، وجوهكم فيها حياة، شاحبةٌ قليلًا لكنها متورّدةٌ ونضرة. هناك غرفٌ جرداء، الأسرّة بحديدها، لا غطاءَ ولا كساءَ إلّا ببعض ما يستر عوراتهم من ملابس ممزّقة. الوجوه ترى الموتَ فيها رغم أنهم يبتسمون ويضحكون رغم أنفِ الألمِ المحيطِ بهم من كل جانب. أوّل ما دخلتُ عليهم كانوا ثلاثة: أحدهم مقطوعُ اليد، والثاني مقطوعُ القدم، والدم ما يزال نازفًا، والثالثُ فتحةٌ كبيرةٌ في خاصرته. جلستُ خائفًا مرعوبًا من هذا المسلخ الذي وجدتُ نفسي فيه وحيدًا مكتملَ الأركان، رحّبوا بي وكسروا الحاجز بيني وبينهم بسرعة، باللهجة الغزّاويّة هتف أحدهم:
• أهلًا وسهلًا يا خو، شايفك تنظر باستغراب؟
"مررتُ بعيوني على جروحهم بشفقةٍ وحزنٍ"، فضحك من رحّب بي وهتف:
• يا خو، هذه سبقتنا إلى الجنّة إن شاء الله.
• والوجع؟ ورحلة العذاب قبل أن تصلوا إلى هنا؟
• كلّه في سبيل الله. إذا كانت الشوكةُ التي تُصيب المؤمن عند الله محفوظة، فما بالك بهذا البترِ للأطراف؟
وهتف ثانيهم:
• ما بالك لو قلنا لك إنّ البترَ قاموا به دون تخدير؟
• الله أكبر عليهم!
• من موقع المكان الذي أُصبنا به إلى هنا رحلةُ عذابٍ لا يتصوّرها بشر. حاولوا أخذ معلوماتٍ منّا بكلّ وسائل التعذيب التي لا تخطر على بالِ بشر.
هتف ثالثهم، مع ابتسامةٍ جميلةٍ خرجت من غابة الألم المزروعةِ بداخله:
• حاولوا ابتزازي: علاجُك مقابل اعترافِك. ذكروني بمعادلة الغرب مع العراق: النفطُ مقابل الغذاء.
• ما أصعب أن تجتمع ويلاتُ التحقيق مع ويلاتِ الجرح.
• لم أتخيّل نفسي وأنا أغرق في بحرٍ من الألم، وهم ينشرون قدمي، أنّ هناك في الدنيا مثل هذا الألم. صرختُ حتى فقدتُ الوعي، وعدتُ إلى وعيي عدّةَ مراتٍ، لأعود إليه سريعًا. فقدانُ الوعي كان من لطف الله الذي لا ينفكّ عن قدره.
عاد إلينا ضيفُنا الجديد، وكأنّه أفاق من كابوسٍ لئيم، وقال:
• أنتم لستم في سجن، السجن هناك. تصوّروا أن جراحَهم لم تُبعدهم عن خفّة دمِهم، يتبادلون النكات ويضحكون من إعاقاتهم، والنهفاتُ والمقالبُ عندهم شغّالةٌ يومَ يوم. مرّةً قال صاحبُ اليد المقطوعة لصاحب القدم المقطوعة:
• لقد أعفاك الله من الجهاد، "ليس على الأعرج حرج"، يعني بطّلت تنفع!
• سأجاهد ولو بطرف عيني، الشيخ أحمد ياسين خيرُ مثال.
• ولكن الله لم يقل: "وليس على الأكتع حرج".
• تندرج تحت "وليس على المريض حرج".
عندها قال صاحبُ القدم المقطوعة:
• الحمد لله، خصّ الله نصًّا للأعرج، ولم يُخصّص نصًّا للأكتع.
سألته:
• كيف كانوا يقضون أوقاتهم؟
• لا يدرون بالوقت كيف يمرّ بهم، تصوّر أنهم يعانون من ضيقِ الوقت!
• مش معقول!؟
• وتَصوّر أيضًا أنهم الثلاثة حفظةٌ لكتاب الله، يُسمعونه كلَّ يومٍ مرّةً.
• كاملًا؟
• نعم، كاملًا، مع بعض الوقفات مع معانيه العظيمة.
• إنهم الرجال.
• لا شكّ، لقد شحنوا معنويّاتي عشرَ سنواتٍ إلى الأمام. هانت عليّ مصيبتي بعد أن رأيتُ ما رأيت.
• بالفعل، "اللّي بشوف مصيبة غيره بتهون عليه مصيبته".