اغتصاب أمّه وليس اغتصاب أسيرة

الاسير المحرر ربحي بشارات

روائي وكاتب مختص بالشأن السياسي

بقلم/ ربحي بشارات

من الصعب أن تكتب وأنت تختنق، ومن الأصعب أن تكتب عن وجعٍ كهذا، وجعٍ يطعن كرامة الأمة في خاصرتها، وجعٍ يصفعنا جميعًا كلما ذُكرت كلمة "أسيرات" في سجون الاحتلال، لأننا نعرف، ونتظاهر أحيانًا أننا لا نعرف، نعرف أن هناك أجسادًا طاهرة تُغتصب، وصرخاتٍ تُكمم، وعذاباتٍ تتكرر في كل ليلة داخل جدران الزنازين.

نعرف أن الاحتلال الذي لم يرحم طفلًا ولا أمًا ولا شيخًا ولا بيتًا ولا مسجداً، لن يتورع عن اغتصاب النساء، عن تدنيس الشرف، عن ارتكاب أشنع الجرائم التي تُسقط كل ما تبقى من أقنعة على وجهه الأسود، لقد تحولت الزنازين إلى مقابر للكرامة، والمعتقلات إلى أقبية للعذاب الجسدي والنفسي والجنسي، وما كان ذلك لِيحدث لولا صمتٌ عربيٌ مقيت، وتواطؤٌ دوليٌّ فاضح، وتبلدُ ضميرٍ عالميٍّ يزعم الدفاع عن حقوق الإنسان بينما يغض الطرف عن اغتصاب الأسيرات الفلسطينيات، تلك الجريمة التي لا تقل وحشيةً عن جرائم الإبادة والقصف والتدمير والتجويع، بل هي أشد لأنها تمزق الروح قبل الجسد، وتغرس في قلب الأمة خنجرًا من العار يحاول العدو أن يجعله دائمًا.

ولكن العار ليس علينا بل عليه، لأن من يغتصب امرأةً مقيدةً عزلاء ليس جنديًا بل وحشًا نازيًا ساقطًا من شجرة الإنسانية. إن الاحتلال الإسرائيلي لم يترك لنفسه غطاءً أخلاقيًا واحدًا بعد هذه الجريمة، كان قبل طوفان الأقصى يتشدق أمام العالم أنه دولةٌ متحضرةٌ ديمقراطيةٌ تدافع عن نفسها، أما الآن فقد سقطت الأقنعة، وسقطت الكذبة، وبان وجهه الحقيقي، وجه الشر الدامي الذي لا يشبع من الدماء، وجهُ من يرى في "الأغيار" بهائم تُنحر، وفي النساء غنائم تُستباح، وفي الإنسان الفلسطيني هدفًا مشروعًا للقتل والتشويه والاغتصاب.

هذا ليس احتلالًا، هذا ليس صراعًا سياسيًا، هذا انحطاطٌ وجوديٌّ لكائنٍ لا يعرف الرحمة ولا الشرف ولا الدين، كائنٍ يعيد إنتاج النازية التي طالما تباكى عليها، ويثبت أنه هو الوريث الشرعي للفاشية، بل إنه فاقها، لأن النازي كان يقتل خصومه مقاتلين، أما هو فيغتصب نساءً مقيداتٍ بلا حولٍ ولا قوة، فيا لله أيُّ دناءةٍ هذه التي وصل إليها هذا الكيان، وأيُّ سقوطٍ أبشع من هذا السقوط.

لقد كانت شهادات الأسيرات صاعقةً على الضمير الفلسطيني، لا لأنها جديدة، بل لأنها أكدت ما كان يُهمس به منذ سنوات، وما كانت المنظمات الصهيونية تحاول دفنه، أكدت أن الاحتلال لم يكتفِ بالقتل الجماعي في غزة، بل نقل وحشيته إلى الزنازين، ليغتصب أجسادًا ويقتل أرواحًا، كأنه يعلن صراحةً أن معركته ليست مع رجال المقاومة فقط، بل مع الأنثى الفلسطينية ذاتها، مع رمز الحياة والكرامة، مع الأم التي أنجبت المقاوم.

يريد أن يهينها ليكسر الجيل، يريد أن يغتصبها ليغتصب معها الذاكرة، لكنه يجهل أن من تربّت على الأرض والكرامة لا تنكسر، وأن كل دمعةٍ من أسيرةٍ مغتصبةٍ ستتحول نارًا في صدور المجاهدين، وأن كل صرخةٍ في زنزانةٍ ستتحول إلى رصاصةٍ في جبهة الجندي الذي اعتدى.

إن ما حدث هو وصمة عارٍ على جبين العالم، ولكنها أيضًا إنذارٌ بنهاية هذا الكيان، لأن كل كيانٍ يتوحّش يسقط، وكل دولةٍ تبرر الاغتصاب تزول، والتاريخ لا يرحم، والعقيدة التي تبيح هتك الأعراض لا تدوم، هذه ليست دولة، هذه عصابةُ مجرمين، ولعل هذه الجريمة تحديدًا ستكون القشة التي تقصم ظهر إسرائيل، لأن الاغتصاب لا يمكن تبريره، ولا يمكن للعالم أن يتغاضى عنه إلى الأبد، لقد كذبوا في البداية وقالوا إن المقاومة اغتصبت نساءهم في السابع من أكتوبر، وألّفوا الروايات ولفّقوا الصور والقصص، ثم جاءت الحقيقة المرعبة من الداخل، أن الاغتصاب كان سلاحهم، وأن الجريمة وقعت على يدهم، وأن الأسيرات الفلسطينيات كنّ ضحايا وحوشٍ بشريةٍ يلبسون لباس الجنود.

اليوم يجب ألا نسكت، لا في غزة ولا في الضفة ولا في الشتات، يجب أن تُصبح قضية الأسيرات المغتصبات محورًا لكل حديثٍ ونداءٍ وبيانٍ ومظاهرة، يجب أن نفضح هذا الاحتلال أمام كل محفلٍ دولي، يجب أن نُحاكمه في ضمير الشعوب، وأن نُسقط عنه أيَّ صفةٍ بشريةٍ أو قانونيةٍ، لأن من يغتصب النساء لا يستحق أن يُسمى إنسانًا، ومن يصمت على اغتصابهن لا يستحق أن يُسمى عربيًا، لقد انتهى زمن المجاملة.

وانتهى زمن الحياد، والدماء التي سالت في غزة ليست أقل من الدموع التي سالت في الزنازين، والوجع واحد، والعدو واحد، والمجرم واحد، والرد يجب أن يكون واحدًا: لا تسامح، لا نسيان، لا صلح مع من هتك العرض وسفك الدم، لا هدنة مع من داس الشرف وقتل الطهر في سجونه، فإسرائيل اليوم ليست فقط قتلت أبناءنا ونسفت بيوتنا، بل اغتصبت نساءنا، وتجاوزت كل حدود الإنسانية، ولم يبقَ بعد هذا إلا أن تزول، لأن الأرض لا تحتمل هذا القبح طويلًا، ولأن الله لا يترك ظلمًا كهذا دون حساب، سيأتي اليوم الذي يُفتح فيه كل ملف، وتُفضح فيه كل جريمة، وسنرى قادة هذا الكيان يُحاكمون أمام محاكم المقاومة والتاريخ، وستُكتب أسماء الأسيرات المغتصبات لا كضحايا، بل كرموزٍ للكرامة التي لن تُغتصب أبدًا، لأن أجسادهن وإن انتُهكت فقد بقيت أرواحهن أطهر من العالم.

ولأن ما فعله الاحتلال لن يُنسي الأمة صبرها، بل سيوقظها، سيجعلها تدرك أن المعركة لم تعد على الأرض فقط بل على العرض، وأن الرد لا يكون بالبيانات، بل بالنار، وبالحق، وبالثأر المقدس الذي يُعيد التوازن إلى هذا الكون المختل، فلتعلم إسرائيل أن ما زرعته من اغتصابٍ ودمٍ ودموعٍ ستجنيه عواصف من الغضب والانتقام، وأن صرخة الأسيرة الفلسطينية ستبقى تلاحقهم حتى آخر يومٍ في هذا الوجود.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025