دروس أفغانية للقضية الفلسطينية

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

بقلم الخبير العسكري والأمني:
عبد الله أمين


منذ دخول طالبان إلى كابل وسيطرتها على مقاليد الحكم فيها، وفرار الرئيس الأفغاني أشرف غني إلى دولة الإمارات العربية محملاً بما خف وزنه وغلا ثمنه من ممتلكات الشعب الأفغاني، المادية والعينية، منذ ذلك الحين كثر الحديث حول تجربة طالبان خصوصاً والأفغان عموماً، وكيف يمكن الاستفادة منها خاصة على صعيد القضية الفلسطينية والعاملين لها، من قوى مقاومة مختلفة التلاوين والمشارب الفكرية، الأمر الذي حملنا على كتابة هذه المقالة، التي تُعدد بعضاً من الدروس الممكن تعلمها من التجربة الأفغانية خدمة للقضية الفلسطينية. لكن تجدر الإشارة هنا أن ذكر هذه الدروس لا يعني أنها غير موجودة أو غير مطبقة فوائدها عند قوى المقاومة الفلسطينية؛ وإنما جاء ذكرها هنا من باب التأكيد على أهميتها أو ضرورة التركيز عليها وجعلها أكثر وضوحاً أثناء ممارسة الفعل السياسي أو الفعل المقاوم، كما يجب التنبيه إلى خصوصية كل تجربة وأنه من غير الممكن إسقاط التجارب أو استنساخها، فكل تجربة مرهونة للبيئة التي خرجت منها، والقوم الذين خاضوا غمارها، فضلاً عن أن التجربة الأفغانية عصية على التكرار أو الاستنساخ كما هي كاملة غير منقوصة، كون جغرافية هذه التجربة والقوم الذين خاضوا غمارها ـــــ بيئة هذه التجربة ــــ من الفرادة بمكان بحيث لا يمكن أن يتكررا جغرافيًا أو بشريًا.
 وبعد هذا الاستهلال السريع والمقدمة المختصرة، نلج إلى أصل الموضوع المتعلق بالدروس الأفغانية الممكن أن يستفاد منها على صعيد القضية الفلسطينية، والتي من أهمها: 

  1. وضوح الهدف: إن أول درس يمكن أن يستفاد من التجربة الأفغانية في حقبتيها السوفيتية الأولى والأمريكية الثانية هو وضوح الهدف لدى الشعب الأفغاني وفصائله المجاهدة، فقد كان الهدف في كلتا الحقبتين يتمثل في مقاتلة المحتل على قاعدة دحره واخراجه من كامل التراب الأفغاني غير منقوصٍ منه ولا حبة، فلم تختلف الفصائل الأفغانية المجاهدة في الحقبة السوفيتية ــــ سبعة فصائل سنية وسبعة فصائل شيعية ـــ على هذا الهدف، ولم يخوضوا نقاشاً حول إمكانية تحرير جزء من البلاد، ثم عقد معاهدة مع المحتلين إلى حين نضوج الظروف الذاتية والموضوعية لاستئناف القتال لدحره مما تبقى من الأرض المحتلة، كان الهدف في الحقبتين واضحاً وضوح الشمس للجميع؛ قادة ومجاهدين، مواطنين في أرضهم أو مهاجرين، الجهاد حتى خروج المحتل، ثم يقضي الله أمراً كان مفعولاً، الأمر الذي كان وتم.
     
  2. وضوح المهمة: نتج عن وضوح الهدف ذاك؛ وضوحٌ في المهمة قلّ نظيره، فمثل ذاك الهدف، يقتضي مهمة واحدة؛ القتال ثم القتال ثم القتال، فإن حسم الأمر في الميدان، تتم ترجمته في السياسة والمعاهدات، وهذا أمرٌ كان شديد الوضوح عند طالبان في جولتهم الثانية من القتال ضد الأمريكان وحكومة أشرف غني التي كان ينظر لها على أنها حكومة من صنع المحتل ولا تخدم مصالح الشعب الأفغاني، لقد كان وفد طالبان يدير المفاوضات مع الأمريكان والحكومة ( الأفغانية ) في قطر وغيرها من الدول، ومجاميع مقاتليه العسكرية تهاجم الأهداف العسكرية التابعة لخصومها ـــ الأمريكان والأفغان ـــ في كل مكان وكل ولاية من ولايات أفغانستان. كما يمكن ملاحظة هذا الوضوح في المهمة من خلال قلة ما نسجته حركة طالبان من علاقات سياسية أو فتحته من ممثلات دبلوماسية، فلا ممثلين ولا ملحقين ولا ما يثقل من حراك أو علاقات سياسية، لقد كانت المهمة واضحة جداً مختصرة في معادلة خلاصتها: المحتل يواجه بالقتال وما دون ذلك تفصيل، والسلام. 

  3. تركيز وتخصيص القدرات: وبناء على ذاك الهدف وتلك المهمة؛ فقد خُصصت قدرات الأفغان ـــ سابقاً ولاحقاً ــ وتحدد مركز ثقل صرفها وتركيزها على ما يؤمن ما هو مطلوب من أجل القتال، فأبواب الصرف محدودة وبنوده معدودة، فلا استثمارات ولا شركات ولا محافظ مالية خوفاً من عواقب الزمان، ولا مؤسسات إعلامية وغير إعلامية ( تشفط) ما هو مرصود للقتال والجبهات، وتُخُفِفَ من المؤتمرات وورش العمل والمنتديات، ومراكز البحث والدراسات، ومحطات التلفزة والراديوهات، ومنصات التواصل الاجتماعي و(الانترنتات)، فكلها مهمة وكلها مفيدة، لكن أمام ضيق ذات اليد والحصار المالي، تأخرت أولوية هذه الأمور على حساب الأولوية الأولى، قتال المحتل وما يصب الماء في طاحونة طرده وإخراجه، فركزت وخصصت الموارد البشرية والمالية على هذا الهدف كأولوية أولى، وما دونه تفصيل مقدور عليه عند الحاجة له.  
     
  4. معرفة العدو والتركيز عليه: كما لم يختلط الأمر على الأفغان فيما يخص العدو؛ فهو في حقبة الاتحاد السوفياتي المحتل السوفيتي وكل من ركب مركبه، من ظاهر شاه إلى باربك كارمل إلى نجيب الله، ثم هو في عهد الأمريكان، أمريكا ومن اختار جوارها، فمن يرتضي لنفسه أن يكون درعاً ومتراساً يختبئ خلفه المحتل؛ عليه أن يعلم أن رأس حربة الهجوم ستأكل من لحمه قبل لحم المحتل، ومن يرتضي لنفسه أن يكون مانعاً يحول دون المجاهدين والوصول إلى المحتل؛ فعليه أن يعلم أن المفخخات والنسفيات والعبوات، ستقتلعه من الأرض ليصل المقاتلون إلى أصل الداء ومنبع البلاء، ألا وهو المحتل الأصيل بعد أن يزال ( ابن ) البلد الوكيل. 

  5. التركيز على الأصيل بدل الانشغال عن البديل: وهنا أيضاً ومن باب التركيز وتخصيص القدرات الناتج عن ضيق ذات اليد، لم يتم التركيز على البديل أو الوكيل للمحتل الأصيل، بل تم التركيز على الأصيل انطلاقاً من أنه هو من يمثل شريان الحياة للوكلاء، وأن ضربه والإثخان فيه واقتلاعه من أرضه؛ سيتبعه حكماً تلاشي وكلائه وتشردهم في الآفاق، وهنا يجب الإشارة إلى أنه قد يكون الأصيل في مرحلة من المراحل أو جغرافيا من الجغرافيات غير العدو الظاهر العداء أو المحتل الذي يحتل الأرض والبلاد، بل قد يعرف الوكيل على أنه هو الأصيل الظرفي؛ فإن كان ظهر كذلك؛ وجب التركيز عليه وتسديد الضربات له من أجل النفود إلى الأصيل الأصلي-المحتل-؛ لذلك في كابل ومحيطها؛ كان الضرب يتم للأمريكان جنودا ًوقوافل إمداد، وفي الأطراف كان يتم استهداف عملاء هذا المحتل، الذين يهيئون الأرض والمكان والزمان له، يجب ضرب رأس الأفعى وعدم الانشغال بذنبها؛ ولكن إن كانت تخندقت في جحرها ولم يبدُ رأسها ويظهر منها سوى ذنبها؛ فضربه ــ الذنب ــ وإيذاؤه سيجبرها على الخروج، وعندها تسدد لها الضربات تلو الضربات وهي فاقدة لذنبهاـ العملاءـ الذي يوفر لها أداة لحفظ التوازن أو منصة للقفز منها على أهدافها. 

  6. العيش مع الناس وضمن البيئة التي تخدم أصل الهدف: ومن الدروس المهمة في التجربة الأفغانية؛عيش أهلها مع ناسهم وضمن بيئتهم، فلم تمتصهم الدول ولم تشردهم المنافي، فهم أيام الاحتلال السوفيتي كانوا في بيشاور وكوتا الباكستانيتين، ومشهد الإيرانية، أقرب ما يكونون إلى جبهات القتال ومعسكرات التدريب، وأبعدهم مسافة، كان في جدة في الجزيرة العربية؛ حيث مصادر التبرعات والأموال، كانت مكاتبهم في مخيمات اللاجئين، ومقارهم في المدن الحدودية؛ حيث المعابر إلى الداخل، ومن له عندهم حاجة؛ فعليه ضرب ( بطون) السيارات ليصل لهم ويرى ما هم عليه، ويقف على طلباتهم. مدارسهم ومعاهدهم وبعض دورياتهم الاعلامية، كلها في تلك المخيمات والتجمعات، فلم يكونوايجهدون في شرح الموقف وصعوبته لزائرهم بعد أن رأى تلك الصعوبة وتذوق طعم المشقة ليصل لهم ويراهم.  

  7. التخفف مما يثقل في السياسية والعلاقات: لقد حملهم التركيز وتخصيص القدرات ووضوح الهدف والمهمة على التخفف مما لا طائل منه في كل شيء، في السياسة والاقتصاد والعلاقات، والمكاتب والممثليات.
     لقد رأوا في كثير من هذه العلاقات عوائق ومثقلات ومثبطات، فتخففوا منها وطرحوها أرضاً، فخف وزنهم وسهلت حركتهم،  وقل دائنوهم وطالبو المواقف منهم. لم يكونوا مدينين لأحد، وعليه قَلَتْ روافع الضغط الممكنة ضدهم، فتحرر سلوكهم وتوسع هامش مناورتهم.

  8. ترشيق الهيكليات: إن وضوح الهدف والمهمة ينعكس على طبيعة الهيكلية والبناء، لذلك فقد كانت هيكليات العمل الأفغاني في كلتا حقبتي الاحتلال الروسي والأمريكي، هيكلات رشيقة غير معقدة، ولا تتجاوز المناصب الأولى في حركة طالبان أصابع اليد الواحدة، فلا أقسام ولا دوائر ولا وحدات تثقل الحركة وتطيل عملية صنع القرار وأخذه، فالحزب الإسلامي بزعامة حكمت يار والمعروف أنه من أفضل الأحزاب الأفغانية على صعيد التنظيم والهيكلة، كان جسمه رشيقاً وهيكليته غير معقدة لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة، أهمها اللجنة العسكرية ثم اللجنة الأمنية فلجنة شؤون اللاجئين، وما بعد ذلك تفصيل.
     إن مقتل أي حركة مقاومة؛ ثقل وزنها الإداري وبروقراطيتها الزائدة عن الحد، التي تعيق الحركة وتثقل التقدم، وتضيع الفرص التي قد تلوح في الأفق وتتطلب سرعة في الاغتنام ومهارة في الاقتناص. 

  9. إيلاء الجغرافيا الأهمية المطلوبة: تعد الجغرافيا لحركات المقاومة وحركات التحرر بمثابة الماء للأسماك، فهي البيئة التي تتحرك وتنمو فيها، بل أكثر من ذلك؛ هي أصل الهدف الذي ما قامت المقاومة إلا لأجله، ليسترد إن كان مغتصباً أو مسلوباً؛ لذلك فكلما كان المقاومون والمجاهدون قريبين لجغرافيا العمل التي لأجلها يعملون، ولراحة أهلها وناسها يتعبون؛ كانت جذوة الجهاد في نفوسهم أحيا، وحرارة جمره ــ الجهاد والمقاومة ـــ في قلوبهم أسخن، وكلما نأت بهم المسافات، كانوا مظنة الانشغال والنسيان وتقدم الأولويات على الأولوية الأولى، لذلك لا يجب أن يتساهل في الجغرفيا ــ مقراً أو عملاً ـــللمقاومين أو المجاهدين. وفيما يعني الأفغان؛ فقد حوتهم بشراً ومقرات ومعسكرات؛ جغرافيات هي أقرب ما تكون إلى بلادهم وساحات عملهم وجهادهم، من بيشاور، إلى كوتا، إلى بنون، وغيرها من المدن الباكستانية التي  كانت على مرمى حجر من جبهات القتال أو بوابات الدخول إلى أفغانستان. 

  10. الاعتماد على الذات بعد الله سبحانه عز وجل: الدول ليست جمعيات خيرية ولا نوادي رياضية ولا مأوىً للعجزة، وإنما كيانات سياسية تبحث عن تأمين مصالح شعوبها ورفاهية عيشهم، وتكون قريبة منك بقدر قربك من أهدافها أو بقدر تقاطع مصالحك مع مصالحها وهي ــ المصالح والأهداف ـــ تشمل طيفاً واسعاً، بدءاً من المصالح والأهداف الأيدلوجية وليس انتهاءً بالمصالح السياسية والتجارية، الأمر الذي يتطلب من بقاء العين مفتحة على هذه المصالح والأهداف حتى لا تتفرق أو تتضارب، آخذين بعين الاعتبار أن العلاقات السياسية بغض النظر عن مستواها، دولية كانت أو محلية أو اقليمية، إنما هي خط سير باتجاهين،  واليد العليا في العلاقات ـــ وفي كل شأن ـــ خير من اليد السفلى. 

كانت هذه دورسٌ عشرة ٌمن التجربة الأفغانية، يصلح أن ينظر لها بعيون فلسطينية، والعاقل من اتعظ بغيره، فسنن الله لا تحابي أحداً من البرية. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. 


جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023