الدفاع الهجومي.. قراءة في المفهوم والمقتضيات

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

بقلم/ عبد الله أمين

أولاً: بين يدي القراءة:

كان من أوائل ما رشح عن لجان التحقيق التي أقامها جيش العدو بعد السابع من أكتوبر 2023، ما ذُكر من أن أحد أهم أسباب قدرة المقاومة على تحقيق المفاجأة ضد فرقة غزة، ومن ثم (نعفها) هو: الخلل في تعريف مفهومي "الدفاع" و "التهديد"، وما يبنى عليهما من مقتضيات؛ سياسية وتعبوية، وعلى كافة الصعد؛ الإستراتيجية والعملياتية والتكتيكية، حيث ينبني على العطب في هذا الفهم، سلسلة من الأخطاء والإجراءات التي تفضي ــ كما أفضت ــ إلى تمكن العدو من مفاجأة عدوه، ومن ثم امتلاك زمام المبادرة القتالية، حيث يتوقف النصر على قدرة القادة والمقاتلين في الميدان على المحافظة على هذه الميزة ــ إمتلاك زمام المبادرة ــ وإدامة الضغط على العدو، إلى حين تحقيق أهداف المعركة أو الحرب.

وحيث أن جيش العدو من الجيوش التي يُشهد لها في القدرة على استخلاص العبر، والتعلم من أخطائها، ومن ثم تطوير أو تغيير طرق عملها، وأساليب وصولها لأهدافها بناء على ما استخلص من العبر، حيث أنه كذلك؛ فقد بدأت تطرق آذاننا مصطلحات وتعابير، ومفاهيم جديدة بدأ العدو يستخدمها في نقاشاته الداخلية، وورش عمله التقييمية. ولما كان فهم مضامين ما يطرحه العدو من مصطلحات يساعد على فهم كيف يرى ــ العدو ــ المواقف القتالية، وكيف يستعد لمواجهتها، تأتي هذه الورقة لتحاول قراءة وتحليل ما طرحه العدو في أحد ورش عمله تحت مسمى " الردع والدفاع الهجومي".  

في هذه الورقة لن نتحدث عن مفهوم الدفاع، والذي يقتضي ـــ حكماً ــ تعريف مفهوم الهجوم إبتداءً، حيث لا دفاع ما لم يكن هناك هجوم، لن نحرر هذين المصطلحين، أو نعيد تعريفهما؛ كوننا تحدثنا عنهما مطولاً في مقالات سابقة، كما أننا لن نتحدث عن مفهوم الردع، وطرق إقراره الثلاث ــ الردع باستعراض فائض القوة، الردع بالتهديد، الردع بالعقاب ـــ فهذا بحث يطول شرحه والحديث عن مقتضياته، وإنما ستركز هذه الورقة على تحليل مفهوم " الدفاع الهجومي" من خلال سلسلة من العناوين، نعتقد أنها تشكل الأرضية الأولية المناسبة التي يمكن أن تكون أحد لَبِنات منظومة التفكير العسكري لأصحاب الشأن والكار.  

ثانياً: دوافع تبني مثل هذا المفهوم:  

كما أن الجيوش لا تبني قدراتها المادية اعتسافاً، ولا تنسج خيوط تحالفاتها عطفاً وتعاطفاً، فإنها أيضاً لا تتبنى مفاهيمها العسكرية أو الأمنية ارتجالاً، كون هذه المفاهيم وما تحتويه من مضامين، سوف تشكل معالم على طريق مسار بنائها لقدراتها العسكرية، البشرية والمادية، إبتداءً، أو ترميمها بعد الخروج من جولات القتال الحقيقية، أو مشاريع التدريب التعبوية و/ أو الركنية، ومن أهم ما يمكن سوقه للحديث عن دوافع تبني مفهوم " الدفاع الهجومي" ما يلي من دوافع ومحركات:  

1. الشعور بتهديد وجودي دائم:  

يعد شعور الدولة، أو الكيان السياسي بالتهديد الوجودي الدائم، من أهم ما يمكن الحديث عنه كدافع لتبني هذه الدولة مثل هذا المفهوم، كونها لا تملك ترف السكوت عن أي تهديد، وتركه ليتبلور ويخرج إلى حيز الفعل، لأنها ترى أن تحمل أكلاف المبادرة لضرب التهديد في مهده، والقضاء عليه في عقر داره، أقل بكثير مما لو تُرك ينمو، ويتطور، ويتقوى، وصولاً إلى حالة التشغيل، في عمل مبادر لا تعرف عواقبه. لذلك فإن الجدوى المرجوة من المبادرة بعمل دفاعي، في قالب إجراء هجومي، هي ما يدفع لتبني مثل هذه المفهوم، والعمل بمقتضاه.  

2. النتائج المتصورة عن أي هجوم معادي مفاجئ:

ومما يدفع إلى تبني المفهوم سالف الذكر؛ تقدير الخسائر المتصورة، أو المتوقعة، الذي تقوم بإعداده الدول والكيانات السياسية، في حال تمت مفاجأتها من قبل عدوها في عمل استباقي مباغت، فإن كانت الخسائر المتصورة، غير قابلة للتحمل، أو للتعويض، فإن صاحب القرار السياسي لا ينتظر أن يطل التهديد برأسه مهدداً الأصول الاستراتيجة للدولة، ومراكز ثقلها، لذلك يبادر هو بعمل هجومي، بقصد دفاعي، يقضي على التهديد، ويبعد الخطر، و( يخصي) القدرات.  

3. هشاشة أنظمة الدفاع عن الأصول الاستراتيجية للدولة:  

إن العدو عندما يبادر بعمل هجومي، فإنه يتوخى أن يكون هذا الإجراء: سريعاً وشديداً وحاسماً، بحيث يحقق أهدافه بأسرع وقت وأقل الأكلاف، مستخدماً كثافة نارية متعددة الوسائط لتدمير أصول عدوه ومراكز ثقله الاستراتيجية، ليفرض عليه حالة من الشلل والضياع، تفضي إلى الهزيمة. ولما كانت القدرات الهجومة في أفضل حالاتها عندما يبدأ تشغيلها، الأمر الذي لا يمكن مقاومته، أو الوقوف في وجهه إن بدء في التحرك. لذلك فإن كانت أنظمة دفاع الطرف المدافع هشة، ولا تقوى على مقاومة منظومات نار العدو المهاجمة، فإن أفضل طريقة للخرج من هذا الموقف الضعيف والخطير هي: المبادرة بالهجوم على مركز ثقل منظومة هجوم العدو، قبل أن تُشغّل، و(تسخن) محركاتها، وتقذف النار من فوهاتها.  

4. تقدير إمكانية القضاء على الخطر أو تحييده في مهده:  

لا يلجأ القادة العسكريون إلى مثل هذا الخيار إلّا في حال تقدير موقف خلص إلى إمكانية القضاء على التهديد أو الخطر في مهده، وبالقدرات الذاتية، وليس بما يُقدّر، أو يُتوقع أنه سيأتي دعماً من حليف هنا، أو صديق هناك، كون القادة يقاتلون بما يملكون من جيوش وقدرات ذاتية فعلية، وليس بما يتمنون امتلاكه، أو يتصورون وصوله مستقبلاً.

ثالثاً: المقتضى السياسي لتبني مثل هذا المفهوم:

كما أن هناك دوافع لتبني جيوش الدول، ومؤسساتها الأمنية والعسكرية لمفاهيم العمل، ونظريات التشغيل، فإن لهذه المفاهيم أيضاً مقتضيات سياسية، وأخرى تعبوية، أما عن أهم المقتضيات السياسية لتبني مفهوم "الدفاع الهجومي" فيمكن إيراد التالي:  

1. ضرورة توفر سردية تبرر السلوك؛ داخلياً وخارجياً:  

فحتى تبادر بالدفاع عن نفسك، ومقدراتك، وأصولك ومراكز ثقلك البشرية والمادية، بالمبادرة بالهجوم على مصادر التهديد قبل خروجه إلى حيز التشغيل، قبل ذلك، لا بد لك من سردية وقصة ومبرر، يقنع جبهتك الداخلية أولاً، قبل تصديق الخارج لها ـــ للسردية ــ وإلّا ستفقد زخم الدعم والدفاع عنك، والسير معك في معركتك الدفاعية الهجومية حتى تحقيق أهدافها النهائية، وفي مثل هذا الموقف؛ ستخسر حربك على الوعي والقصة، وفي عالم ثورة المعلومات، ومواقع التواصل الاجتماعي ومنصاته، فإن أهمية النصر في هذه المواقع، يكاد يساوي أهمية النصر في ميادين المعارك وسحاتها، إن لم يكن أكثر أهمية.    

2. وجود حليف قادر على النجدة عند الحاجة:

صحيح أن الدول تخوض معاركها بما تملك من جيوش في وقت الأزمة، لا ما تتمنى أن تحوزه من قدرات وإمدادات وتعزيزات تؤمنه لها شبكة التحالف والعلاقات، إلّا أن هذا لا يعني أنه لا حاجة لتوفر حليف قادر على النهوض للنجدة؛ المادية والمعنوية، أو السياسية والتعبوية، في حال تقرر الخروج إلى معركة دفاع هجومية.  

3. ثبات وقوة منظومة الحكم صاحبة السلطة والقرار:  

إن أفضل موقف سياسي تجد منظومة حكم نفسها فيه في حال قررت أخذ قرار حرب، هو الموقف الذي تكون فيه في حالة الدفاع، حيث تتآزر القوى، ويُشد العصب، وتخبو أصوات المعارضة والاعتراض، أما إن كانت الدولة هي المبادرة بالهجوم ولم تكن منظومة حكمها، وأركان سلطتها من القوة بمكان، فإنها ستجد نفسها تقاتل على جبهتين؛ جبهة الداخل، وجبهة الخارج، الأمر الذي سيطيل أمد القتال، ويُخرج الموقف عن السيطرة، وتدخل هي ــ منظومة الحكم ــ وشعبها في نفق لا يرى آخره، ولا يعرف شكلاً لمنتهاه.  

4. معارضة ضعيفة:  

هذا الأمر مرتبط بسابقه، فلا نظام حكم، ولا حكومة، مهما حسن عملها، وأخلص عُمّالها، بلا معارضة، فإن كانت المعارضة منظمة وقوية وصاحبة حضور في الشارع، فإنها ستستغل المبادرة للدفاع هجوماً، لتفنيد سردية منظومة الحكم وإضعافها، وضرب ما استندت عليه من مبررات وحجج عند خروجها للحرب، وهنا أيضاً ستضطر الدولة للقتال على جبهتين. أما إن كانت المعارضة ضعيفة، ومشتتة، ولا تتمتع بوزن ذو مصداقية في الشارع المحلي، فضلاً عن الإقليمي أو الدولي؛ عندها ستريح منظومة الحكم نفسها من خوض معركة على جبهتين، وفي ساحتين، أخطرهما، الداخلية وليست الخارجية.  

رابعاً: المقتضى التعبوي لتبني المفهوم:  

1. امتلاك قدرات هجومة يعتد بها:  

فإن لم تكن الدولة المبادرة للدفاع هجوماً صاحبة قدرات هجومة يعتد بها، قادرة على تحييد التهديد والقضاء عليه، أو على أقل تقدير (إخصائه)، فإنها ستدخل نفسها في مقامرة غير معروفة النتائج، فقد يمتص العدو زخم الهجوم، ويحد من إندفاعته، ثم يبادر ــ الطرف المُعتدى عليه ــ إلى هجوم معاكس، يلحق بالمهاجم المُتعرض خسائر لم تكن في الحسبان، فضلاً عن إطالة زمن المعركة، وتحويلها إلى حرب استنزاف، ينتصر فيها الأكثر صبراً وقدرة على تحمل الخسائر.  

2. امتلاك قدرات دفاعية ـــ سلبية ونشطة ـــ يعتمد عليها:  

فالحرب ما كانت، ولن تكون من طرف واحد، مهما بلغ ضعف أحد أطرافها، لذلك فإن المبادر للدفاع هجوماً، أو المهاجم مبادرة، إن لم تكن لديه قدرات دفاعية ــ سلبية و/أو نشطة ــ قادرة على تحمل رد فعل العدو، وضرباته الجوابية، فإنه يدخل في موقف لا تعرف مآلاته، ولا خواتيمه ونهاياته، وقد يجد نفسه في موقف ظن أن جدواه أعلى من أكلاف فدخله، وإذ به يفاجأ بارتفاع الأكلاف، وتبخر الجدوى.    

3. خطوط إمداد وتعزيز غير قابلة للسيطرة أو الوقف:  

وحتى لا يقع المدافع هجوماً في شر حساباته، وسوء قراءته وتقديراته؛ يجب عليه أن يمتلك خطوطاً للإمداد، والتعزيز؛ عضوية أو صديقة، قادرة على التدخل عند الطلب والحاجة، غير قابلة للتعطيل أو العطب، الأمر الذي يقيه شر تحول حربه الدفاعية، إلى حرب اسنزافية، تأتي على ما خرج مبادراً لحمايته من أصول ومقدرات؛ مادية وبشرية.  

خامساً: الخلاصة والاستنتاج:  

لا يبادر للدفاع هجوماً إلّا من رجح لديه أن السكون، وعدم المبادرة بالفعل، واللاقرار، هو أسوء الخيارات، وأن انتظار العدو لدخول (الباب) يعني قتاله في (حوش) المنزل، الأمر الذي يحمل في طياته خسائر لا يمكن تحملها، أو القبول بها، لذلك يقع المدافع هجوماً على ما يهاب ويخشى، تأسياً بحكمة الإمام علي كرم الله وجهه عندما قال: "إذا هبت شيء فقع عليه، فإن شدة توقّيه أعظم مما تخاف منه". والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.  

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025