السلطة مفعولا في صيغة الفاعل
نظرة لنتائج الانتخابات الأخيرة
يصبح طرف ما فاعلًا سياسيًا في المشهد بمقدار وزنه السياسي، ويؤثر في المعادلة بمقدار ذلك الوزن، وتحسب الأوزان السياسية بمركبات القوة التي يمتلكها كل طرف ماديةً أو معنوية.
عندما ذكر معاوية الأحنف بمواقفه السابقة من اصطفافه لمعسكر علي رضي الله عنهم معاتبا إياه على ذلك، أجابه الأحنف بحدة قائلا: " والله يا معاوية إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغمادها، وإن تدن من الحرب فتراً ندن منها شبراً، وإن تمش إليها نهرول إليها، ثم قام وخرج.
وكانت أخت معاوية من وراء حجاب تسمع كلامه فقالت: يا أمير المؤمنين، من هذا الذي يتهدد ويتوعد قال: هذا الذي إذا غضب غضب لغضبه مائة ألف من بني تميم لا يدرون فيم غضب". [ابن خلكان، وفيات الأعيان (2/ 500)].
وفي بعض الروايات أن السياسي المحنك معاوية أخذ يلاطفه بعدها.
وإن كان للأحنف مائة ألف سيف تغضب لغضبه دون أن تسأله، فحري أن يكون له بها وزنه السياسي الذي يحسب السياسيون حسابه، فما هي سيوف السلطة التي بسببها يحسب حسابها السياسيون في معادلة الصراع؟ ما هي سيوفها التي تجعل لها وزنا في معادلة الصراع؟
يبدو لكاتب هذه السطور أن بإمكانه عد الأسياف الآتية للسلطة في المعادلة:
- حركة فتح التي هي حزب السلطة، فتح بما تمثله من تاريخ وانتشار وفعاليات وجماهير وشعبية، جعلتها وحماس الفصيلين الأكبر على الساحة الفلسطينية، فكانا كفرسي رهان يسبق أحدهما الآخر هنا، ليسبقه صاحبه هناك. لكن عين المراقب لا تكاد تخطيء تغول السلطة وملأها المتنفذ على ( التنظيم)، بحيث ذاب فيها أو كاد، وكان وما زال يدفع من رصيده وشعبيته ثمن فسادها وأخطائها القاتلة والكارثية، ولعل امتداد سلطة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة إلى لجان الانتخابات ( تشريعي، بلديات، نقابات، طلاب...) تشكيلا ومتابعة في كل محطة يمكن أن يكون مؤشرا على هذا التغول. الأمر الذي يقودنا إلى الاستنتاج أن السلطة استطاعت -أو كادت- إفراغ فتح من محتواها كتنظيم ثوري، وتحويلها إلى حزب سلطة يبحث كادره عن مصالحه التي توفرها السلطة، ويضطر للتخلي عن قناعاته الثورية كشرط لقبوله ضمن دائرة القرار المسقوفة بالسلطة وسياساتها، فمن لم يغنّ على ليل ملإ السلطة ظل في الهامش وزوايا النسيان، بل إنه وفي مرحلة ما أحس فيها هذا الملأ أنه سيغرق حشد التنظيم كله وراءه موهما إياهم أن السفينة كلها معرضة للغرق، فمن لم يكن معنا فهو علينا، ولم يقبل منه حتى مجرد الحياد!!! وبعبارتنا فيمكن القول أن هذا السيف ( وهو الأهم) عملت السلطة ( بوعي أو جهل) [ لا أقول على كسره، فما زالت بقية من أمل] بل على إغماده طوال الوقت ليصدأ فلا يرعب عدوا، ولا يسر صديقا، ولا يقيم لصاحبه وزنا في دائرة الصراع، وحولته من ( كيلوغرامات) ثقيلة في الميزان، إلى بضع غرامات للأسف!!!
- سيف محكمة الجنايات الدولية، الذي طالما رفعته السلطة، وهددت بإنزال حده على قادة العدو وسياسييه، ليثخن فيهم جراح المطاردة والخوف والرعب والحصار... إلا أنه لا يخفى على أحد أنه بات معروفا لدى العدو قبل الصديق أن هذا السيف من خشب، بمعنى أنه لا نية لاستخدامه أبدا، إنما هو استخفاف الجماهير، والصخب الإعلامي، وتحريك القدر المملوء حجارة لتخدير الأطفال أن الطعام على النار وما هو إلا صبر قليل ويكون الشبع والري!! وهيهات!! أما الاحتلال فكلما شاهدوا هذا السيف الوهم قيل لهم: ( فابشر بطول سلامة يا مربع!!)
- سيف التعبئة والتحريض الرسمي والشعبي، ويكفي المرء أن يقارن بين المناهج الدراسية الموجودة اليوم ومثيلاتها قبل عشر سنين، ليدرك الخطة الممنهجة لإغماد هذا السيف وجعله صدئا، وذلك من خلال تغيير المناهج، حذفا لكل تحريض، وتقليصا لكل إنهاض ودين، وإضافة لكل تمييع. وليس من نافلة القول الإشارة أن صفحة فيس بوك لأحد النشطاء الشبابيين تسهم اليوم في الحشد والتحريض أكثر من مناهج السلطة الوطنية جدا، والمنبثقة عن منظمة التحرير، وفتش عن الوطنية والتحرير واعثر عليهما في تلك المناهج، ولك الجائزة!!!
- سيف المقاومة الشعبية، الذي ظلت السلطة تنادي به، وبُحّ صوتُ الرئيس وهو ينظّر له. وحين التدقيق فإن هناك تمويها متعمدا لمعنى هذه المقاومة الشعبية، فإذ تتسع المخيلة الشعبية لضم كل ما دون السلاح لوسائلها، تجد ممارسة السلطة بملاحقة ضاربي الحجارة وما هو أكثر منها دليلا على أن المراد بهذه المقاومة الشعبية لا يعدو كونه ذرا للرماد في العيون، فلا يسمح بما يمكن أن يؤذي الاحتلال، أو يجرح مشاعره!!! وباستثناء الدور المحدود والرمزي الذي يقوم به موظفو هيئة مقاومة الجدار والاستيطان لا تجد رصيدا لهذه المقاومة الشعبية، بل إن نبات المقاومة الشعبية الذي نبت في غير تراب السلطة ( بيتا وأخواتها) يمكن للمرء أن يلحظ كيف حاولوا -وما زالوا- أن يطفئوا نضارته، ويهجنوا ثمره وينزعوا شوكه...
- سيف التوقف عن (التنسيق الأمني) الذي طالما تم التهديد به، واتخذت بشأنه قرارات المركزية والمنظمة أكثر من مرة. ولا يحتاج المرء كثير ذكاء ليدرك أن السلطة غير راغبة بذلك من جانب، ولا هي قادرة عليه لو أرادته من جانب آخر! حيث لا يبرر وجودها في نظر ( موجديها وداعميها) إلا قيامها بهذا الدور الوظيفي الذي أنشئت من أجله. فما الحاجة لوجودها ما دامت فقدت الدور الوظيفي الذي أنشئت ثم دعمت وما زالت لتقوم به؟ ولأن ملأها يدرك ذلك جيدا، ولطالما ذُكّر به تحت الطاولة وفوقها، فإن هذا السيف لا أمل في خروجه من غمده في ظل وجود هذا الملأ المتنفذ الذي ارتبطت مصالحهم، بل وجودهم به، فهو حين يصر على إغماده إنما يدافع عن وجوده هو قبل وجود موظفيه، ولا يجد حرجا في الحديث عن المصالح المشتركة من بقائه مغمدا!!! أما عن أهمية هذا السيف فيما لو أشهر، فلا يحتاج المرء أكثر من مراقبة تصريحات قادة الاحتلال السياسيين والأمنيين والعسكريين وهم يتحدثون عن بركات هذا التنسيق وأهميته، وعن رعبهم من مجرد التفكير بخسارته وضياعه!!!
وهكذا نجد السلطة ( جهلا أو عمدا) قد كسرت، أو أغمدت فأصدأت، كل سيوفها التي يمكن أن تجعل لها ثقلا ووزنا سياسيا، وهي تعلم أن تفكيرها برفع هذه السيوف أو بعضها والقتال فيها يعني انتهاء دورها الوظيفي والعمل على أن يستبدل موجدوها وداعموها بملئها المتنفذ اليوم، ملئا متربصا يقبل بالدور الذي رفضه سلفه الذي ما أسهل حينها أن يعزل عن المشهد ويخرج خارج اللعبة.
وعليه فلم يبق لهؤلاء إلا التمسك بالتنسيق الأمني الذي لم يبق سواه مبررا لهذا الوجود السلطوي الوظيفي.
والعجب بعد كل ذلك من العجب والحيرة من الخسارات المتتالية لفتح في الانتخابات الأخيرة، وعدم قراءة أن الشعب الفلسطيني بكل شرائحه وطبقاته لم يعد قادرا على التعايش مع هذا الفريق الوظيفي المتنفذ الذي يسد السبل أمام تحرره وكرامته.
وبعد فمن أراد كسر سيوف عزته، وإغماد سيوف تحرره، فهذا شأنه، وسيقول التاريخ فيهم قولته التي قالها من قبل في كل ( الفراعين والهوامين والقوارين والسحرة)، ولن ينفعهم إذ يدركهم الغرق أن يقولوا آمنا بخيار الشعوب، آلآن ولطالما اقتتم على أكبادها؟
أما شعبنا الذي رأى سيف عزته وكرامته يشهر، ورأى سيف القدس وهو يخط مستقبل تحرره، قد بات أكثر من أي وقت مضى، يعرف كيف يحافظ على هذا السيف، وكيف يتفيؤ ظلال عزته. ولكلٍّ وِجهة هو موليها. وشتان بين قبلة القدس يولي وجهَه شطَرها جندُ الله، وبين قبلة التنسيق والتطبيع يولي وجهه شطرها الموظفون والوظيفيون. وشتان بين الذين اختاروا أن يكون لهم وزن فيحسب في كل مشهد عدوهم لهم ألف حساب، وبين الذين اختاروا أن يكونوا في زوايا النسيان، وهامش التاريخ، وسقط المتاع، وذيل القافلة، فلا وزن ولا اعتبار.
أهلي.. نجوم سماء الناس قد أفلت
وأنتم اليوم في الأفـلاك أقمــار
وأنتم اليـوم.. أرقــــــــــــــــام لهـــا ثقــــل
والغير في هامش التاريخ أصفار