وانفلق البحر
مسكينٌ هذا الذي لا يعرف الله! عاش ومات ولم يذق ألذ لذات الدنيا، لذة معرفة الله، وحلاوة مشاهدة يده الحانية تمسح على جراحه، وتداوي أساه. عاش ومات ولم يذق جمال التأمل في قدره الغلاب وهو يقود خطاه ويدبر له ويهديه للتي هي أقوم.
عجيب هو قدر الله وهو يسوق الأحداث متحكما في الزمان والمكان والكيفيات. والإنسان مع ذلك فاعل مختار، فمسؤول ومحاسب. لكن يد الله تفعل ما تشاء، وتدبر الأمر كما تشاء. " لله الأمر من قبل ومن بعد" [الروم:4 ].
1/ من لحظة وعد :" يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر..." [يوسف:4 ] إلى مآل :" قد آتيتني من الملك" [يوسف:101 ] مرورا ب :" وخروا له سجدا" [يوسف:100 ] و" إنك اليوم لدينا مكين أمين"[يوسف:54 ]. مسبوقاً بآلام البئر والمراودة والسجن... كانت عناية الله وكان تدبيره وكانت أقداره الغلابة. تقلبا بين أيام يوسف عليه السلام العجاف والسمان حتى مجيء الغوث. ليعلم الناس أنه: لا إله إلا الله، وأن وعد الله حق.
2/ وحين تكون بداية القصة وحياً للأم أن تلقي قلبها لموت محقق في اليم هربا من موت مظنون على يد العسكر، فإذا هو بين يدي عدوه رضيعا ووحيدا فيربيه بدل أن يقتله، وقد قتل خوفا منه من قبل مئات الأطفال، ثم يعود لحضنها ليملأ فؤادها الفارغ ترضعه وتقبض الثمن!! فكيف لا ينفلق البحر في النهاية ليحقق وعد الله نجاة للمؤمنين وهلاكا للظالمين!! ويا للبحر كم له مع المجاهدين من حكايات!! سينقلها هدير الأمواج للأجيال قصص بطولة وفصول عزة وروايات مجد صنعها أولئك الذين حلم عدوّهم أن يبتلعهم البحر، فإذا هو جدارهم الذي تحته كنزهم الذي خبأته لهم يد العناية منذ عشرات السنين.
ويقود الله الخطى، ويصنع الأقدار ويحدد الزمان والمكان، :" وكل شيء عنده بمقدار. عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال" [الرعد:8، 9 ].
يا لقدر الله! عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم! ترى لو اجتمعت كل الأرض لرسم سيناريو مآل الباخرتين الحربيتين البريطانيتين وهما تجوبان البحار علوا واستكبارا، وحربا عدوانا. أكان يمكن لأحد أن يتخيل هذا المآل؟! تسوقهما أمواج القدرة الحكيمة عند شواطئ غزة، وفي الموقع الذي تحدده العناية الحكيمة، الموقع الذي يظل بعيدا عن أعين كل راصد امتلك من وسائل التنقيب ما امتلك. وهناك تغرقان، وتُطوى الصفحة، أو هكذا يُظَن! وبعد قرنٍ من الزمان يبزغ فجر جنود لله ترميهم الدنيا عن قوس واحدة، ويطعنهم من الظهر الجار ذو القربى والجار الجُنُب والصاحب بالجنب وابن السبيل ، يساومونهم على الدنية في أوطانهم، ولكن: هيهات هيهات! ويصنعهم الله على عينه في قلب النار، ويشتد ساعدهم يوما بعد يوم، وتقوى شكيمتهم ساعة بعد ساعة، فيضطر عدوهم اليائس المهزوم أن يحرق ( ولا نقول يكشف) كل أوراقه من العملاء المنافقين فوق الطاولة غير عابئ في أودية الذل والعار والشنار يلقيهم فليس بعد رأسه رأس! ويشتد الحصار وتبلغ القلوبُ الحناجر، الروحُ الرمقَ الأخير، ويزلزل المؤمنون زلزالاً شديدا، ويُبتلى صبرُ المؤمنين، وحينئذ وبعد السعي سبعا بين الجبلين يأذن الله فيضرب إسماعيل برجله فتنفجر زمزم ريّاً للظامئين. ويأذن الله لكنزه المدّخر منذ قرن من الزمان بأن يحوزه جنود الله!!! في هذه اللحظة تماما، لا قبل ولا بعد. أما المجاهدون فيزدادون إيمانا مع إيمان، كيف وهم في كل لحظة يرون يد الله تحنو عليهم وتأخذ بيدهم وتقود خطاهم وتهديهم للتي هي أقوم، ولكنه الدرس لنا نحن ( القاعدين اليائسين) الذين لا نرى إلا سطوة الظلم وظلام التآمر، وتكالب القوة الغاشمة، وننسى ما وراءها من قدرة العزيز الجبار، وأقدار الكبير المتعال. أفليست هذه المحطة نور الخلاص نحو وعد الله بالنصر والتحرير والتتبير نرى إشعاعه في نهاية هذا النفق؟ :" ألم يأْنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر" [الحديد:16 ] وأن تطمئن قلوبهم لوعد الله:" وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا" [الإسراء:7 ].
ولا ينبغي لمن هم بلاغة القصائد، وبيان الأشعار، وسحر الكلمات، إلا أن يُخْتَمَ بهم وعنهم الحديث، كيف ومنهم يستمدُّ جمالَه، وبهم تظهر بلاغتُه، وعنهم يطيب سماعُه.
فإلى الذين كان الموت يبيت في فرشهم يوم كانوا يمنحوننا الحياة، إلى الذين حين كنا في سكون الوادعين ننام كانت عيونهم على راحتنا وأمننا وأحلامنا بالحرية والانعتاق ساهرةً لا تنام، إلى الحاملين أحلامنا على ظهر جراحاتهم وآهاتهم، والحاملين آمالنا على أكتاف آلامهم، إلى المجففين دموع خوفنا وحزننا بأكف دمائهم وأرواحهم، والطيبة نفوسهم بدموع أمهاتهم وزوجاتهم وأبنائهم كي لا تدمع للأقصى عين...
والله إنها لتنحني أمام قامات جهادكم الكلمات، عليكم سلام الله في الخالدين، وعليكم رضوانه. وما ضرّكم أنكم تظهرون لنا من وراء اللثام فلا نعرف أسماءكم إلا يوم تزفكم ملائك السماء نحو رضوان الله الخالد إذ الدار لا كالدار، والجوار ثَمَّ أعزُّ من كل جوار. وما ضركم أنا لا نعرفكم، حسبكم أن الله الذي شرّفكم بالجهاد يعرف أحسابكم وأنسابكم، وحسبكم أنكم تعرفون الله، وترون وتشعرون وتتذوقون من كرامة الله ما يجهله القاعدون. :" وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما" [ النساء:96].