إسرائيل وعقيدة الجدران...

د. زهرة خدرج

كاتبة صحفية وناشطة فلسطينية



آفاق البيئة والتنمية
​​​​​​​

الاحتلال الإسرائيلي يتعامل بمنطق الانعزال، ولا يرى في الطرف الآخر إلا خصما يجب القضاء عليه أو التحصن منه خلف جدر كالتي يبنيها حاليا، ودائماً يوظف الجدران والسياجات الحديدية لتحقيق سياساته؛ ففي الضفة الغربية لقضم الأرض، وفي غزة لعزل السكان، وهناك مبررات لبنائها على الحدود مع الأردن ومصر وسوريا ولبنان، وفي جميع الحالات، استخدم الأمن كمبرر. والحديث عن هذه الجدران السميكة التي تمتد على امتداد الحدود ولمسافات شاسعة تحت الأرض وفوقها، يجبرنا على التفكير بالكوارث التي تجرها على بيئتنا الفلسطينية وما تحويه من تنوع حيوي، وتبعات هذا التأثير البعيدة التي ستؤثر لا محالة في مستقبل أجيالنا القادمة.  هذا ما يعالجه المقال التالي.


الشخصية الإسرائيلية لا تستطيع العيش خارج الأسوار؛ تلك الأسوار التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من ثقافتها الانعزالية وتاريخها الاستعلائي،وبلورة عصرية متجددة لخضوع المجتمع الإسرائيلي لهيمنة عقلية الجدار. تسيطر الجدران على العقلية الإسرائيلية العنصرية‏، قد تكون الأراضي التي سلبها الاحتلال من أهلها‏ هي السبب؛ لذا كان توجسهم ممن حولهم وممن يضطرون للتعامل معهم شعوراً دائماً.. ما دفعهم إلى الانعزال في مناطق محصنة تحيطها الجدران والسياجات المرتفعة‏،‏ والموانع السميكة، والعوائق المتعددة‏.

ومنذ بدأوا باحتلال فلسطين تجلَّت عقيدة الجدران، فعلى سبيل المثال جمع المحتلون منْ تبقى من سكان مدينة يافا من الفلسطينيين الأصليين بعد احتلالها مباشرة عام 1948 في معسكر في حي العجمي.. أُحيط المعسكر بسياج من الأسلاك الشائكة ومُنع السكان من التحرك خارج بوابته إلا بعد الحصول على إذن خاص من الحاكم العسكري، بينما تُركت المدينة على اتساعها للمهاجرين اليهود ليسكنوا بيوتها ويقيموا فيها الأبنية والممرات ويتحركوا فيها كما يشاؤون!

الاحتلال يتعامل بمنطق الغيتو والانعزال، ولا يرى في الطرف الآخر إلا خصما يجب عزله أو التحصن منه خلف جدر كالتي يبنيها حاليا، ودائماً يوظف الجدران والسياجات الحديدية لتحقيق سياساته؛ ففي الضفة الغربية لقضم الأرض، وفي غزة لعزل السكان، وهناك مبررات لبنائها على الحدود مع الأردن ومصر وسوريا ولبنان، وفي جميع الحالات، استخدم الأمن كمبرر. غير أن هذه الجدران لن تحميهم من الفلسطينيين الذين يسعون لنيل حريتهم وإقامة دولتهم. 

والحديث عن هذه الجدران السميكة التي تمتد على امتداد الحدود ولمسافات شاسعة تحت الأرض وفوقها، يجبرنا على التفكير بالكوارث التي تجرها على بيئتنا الفلسطينية وما تحويه من تنوع حيوي، وتبعات هذا التأثير البعيدة التي ستؤثر لا محالة في مستقبل أجيالنا القادمة..

السياج الحدودي بين مصر ودولة الاحتلال


خط بارليف

نظام دفاعي- تحصيني بدأت" إسرائيل" بإنشائه بعد حرب حزيران 1967 على طول قناة السويس من الجهة الشرقية لمنع القوات المصرية من عبور القناة نحو سيناء أثناء حرب الاستنزاف. تكوَّن خط بارليف من ساتر ترابي يرتفع 20متراً فوق الأرض وينحدر بزاوية 45 درجة على الجانب المواجه للقناة، وبمقدوره تحمل القصف بأنواع مختلفة من الأسلحة الثقيلة..

ضم خط بارليف 22 موقعاً حصيناً  بينها 31 نقطة داخل الارض، كل منها عبارة عن منشأة هندسية معقدة من عدة طوابق من الإسمنت المسلح على مساحة 4000متر مع فتحات للمراقبة والرماية، ومواقع لإقامة الجنود، وملاجئ محصنة ضد الأسلحة الكيميائية والغازات، ومطابخ وقاعات للترفيه والتسلية ومخازن للمؤن والذخائر... الخ. وتتصل المواقع والنقاط على طول الخط بعضها بخنادق عميقة محصنة.

أُحيط الخط بشبكة محكمة مكونة من 15 نطاقا من الاسلاك الشائكة والألغام الأرضية بعرض يصل إلى حوالي 200 متر. أنفق الاحتلال 300 مليون دولار على إقامة هذا الخط.

وصف حمدي الكنيسي المراسل الحربي المصري خلال حرب أكتوبر 1973 في كتابه (الساعة 2,05 بدأ الطوفان) خط بارليف قائلاً: " أقوى خط دفاعي في التاريخ الحديث، بدأ من قناة السويس وحتى عمق 12 كم داخل شبه جزيرة سيناء، وتكون من الخط الأول والرئيسي على امتداد الضفة الشرقية لقناة السويس، وبعده على مسافة 3 - 5 كم أُنشئ الخط الثاني وتكون من تجهيزات هندسية ومرابض للدبابات والمدفعية، ثم وعلى مسافة 10 - 12 كم أُنشئ الخط الثالث الموازي للخطين السابقين، وبه تجهيزات هندسية أخرى وتحتله احتياطيات المدرعات والمدفعية، تمتد هذه الخطوط بطول 170 كم على طول قناة السويس".


السياج الأمني في الجنوب الشرقي بين دولة الاحتلال والأردن


جدران حول المستوطنات خطة الأصابع وخطة الطريق الآمن

تشير المصادر العبرية إلى أن معظم المستوطنات التي أُقيمت على الأرض المحتلة عام 1967 قد أُحيطت بجدران وأبراج حراسة فظهرت وكأنها قواعد عسكرية. مثلاً، مستوطنة أريئيل تحولت إلى جيب داخل الاراضي الفلسطينية وأُحيط طريق "عابر السامرة" المؤدي إليها بجدران وأسلاك شائكة. وأُحيط أيضاً الشارع الموصل بين مستوطنتي الفيه منشيه وكرني شمرون بجدار حماية. وحُصنت مستوطنات غلاف غزة بجدار اسمنتي يمتد لنحو 4.6كم.


جدار العزل العنصري الذي يعزل الضفة الغربية


جدران وعوائق في الضفة

أثناء الانتفاضة الثانية فرضت إسرائيل قيوداً مشدّدة وصارمة على حركة الفلسطينيين، ففي أنحاء الضفة الغربية نصبت عشرات الحواجز ومئات العوائق الفيزيائية- أكوام تراب ومكعّبات اسمنتية وقنوات- عرقلت مجرى حياة سكّان الأراضي المحتلة.

وفي عام 2002 شرعت حكومة الاحتلال ببناء جدار العزل العنصري، ويبلغ طول الجدار حوالي 770 كم، ويتراوح عرضه من 60– 150 متراً وبارتفاع 8 أمتار. ويضاف للجدار العازل: خندق بعمق وعرض 4 أمتار بهدف منع مرور مركبات ومشاة، وطريق معبد مزدوج للدوريات، وسياج مكهرب، وأسلاك شائكة، وطريق ترابية مغطاة بالرمال لكشف الأثر، وأبراج مراقبة مزودة بكاميرات ومستشعرات. 

قسَّم الجدار الضفة الغربية إلى كانتونات منفصلة عن بعضها، وعزلها عن بعضها وعن الأراضي الزراعية، وصادر مساحات كبيرة من الأرض، فظهر نتيجة لذلك حزامين عازلين طوليين، حزام في شرق الضفة بطول غور الأردن وحزام غرب الضفة على طول ما يسمى الخط الأخضر بعمق 5-10كم، إضافة إلى أحزمة عرضية بينهما تخلق فاصلاً مادياً بين كتل المناطق الفلسطينية التي تخضع لسيطرة الاحتلال، مع بقاء المستوطنات على حالها.

مقطع من العائق الذكي الحديث الذي تحاصر دولة الاحتلال به قطاع غزة


جدران حول غزة

في عام 1994 أقامت إسرائيل طوقًا حول قطاع غزّة وهكذا ضمنت السّيطرة الكاملة على حركة الأشخاص والبضائع من القطاع، ويتألّف هذا الطوق من سياج إلكتروني وطرق لتسيير الدوريّات ونقاط مراقبة، ومعابر حدودية.

وبعد اندلاع الانتفاضة الثانية في أيلول 2000 أقامت دولة الاحتلال في قطاع غزّة أيضاً حواجز تقسم القطاع إلى ثلاث مناطق منفصلة.

وفي 2019 شرع الاحتلال ببناء جدار إلكتروني يحيط بالقطاع من ثلاث جهات محاذية للداخل المحتل، ويبلغ طول السياج 65 كيلومتراً، بتكلفة قُدّرت بــ 1.1 مليار دولار. ويحتوي الجدار على ثلاثة أقسام: السفلي ويوجد تحت الأرض بعمق 30 متراً، وضُخّ فيه نحو 1.2 مليون متر مكعب من الخرسانة المسلحة، و140 ألف طن من الحديد ومزود بوسائل تكنولوجية حديثة لاستشعار أي حفريات تحت الأرض. السياج العلوي منه ويتكون من الفولاذ المجلفن، على ارتفاع 6 أمتار، يعلوه سلك فولاذي مكهرب بارتفاع 3.5 متر وداخله غرف حرب ومعدات رؤية ليلية ونهارية ورادارات وكاميرات مراقبة، وفي وسطه فتحات يتمركز خلفها قناصة يحملون أسلحة متطورة ومن فوقهم طائرات مسيرة، ومناطيد تجسس ومراقبة. أما الحاجز البحري فعلوه 200 متر مزود برادارات وكاميرات ويحيط به كاسر للأمواج.

جدران مسيجة على الحدود المصرية: في بدايات عام 2013 انتهت دولة الاحتلال من بناء سياج حدودي مع مصر بطول 245كم يمتد من مدينة رفح المصرية شمالاً إلى أم الرشراش (إيلات) على البحر الأحمر جنوباً، بارتفاع 6م، وبتكلفة بلغت 450 مليون دولار.


سياج عازل على حدود لبنان

بدأت إسرائيل في بناء سياج على الحدود الشمالية عام 2017 بارتفاع 6 أمتار في المنطقة الممتدة من رأس الناقورة حتى إصبع الجليل على طول الحدود مع لبنان، والمبرر "منع عمليات التسلل". ويشبه السياج الذي بنته على الحدود مع مصر، وأطلقت عليه اسم "الساعة الرملية"، ومُصمم من الفولاذ الشائك، ويضم مدخلات تكنولوجية، وفي أجزاء منه جدران خرسانية. وبحسب صحيفة "جروزاليم بوست" يمتد السياج لعدة كيلومترات وبتكلفة 29 مليون دولار أميركي.

وهذا السياج الجديد هو تطوير لسياج أُقيم في ثمانينيات القرن الماضي في المنطقة.

سياجات عازلة على حدود الأردن

شرعت إسرائيل بإقامة سياج حديدي على الحدود الجنوبية الشرقية مع الأردن، في أيلول 2015، بارتفاع يصل 30 متراً وامتداد لمسافة 4.5 كيلومترات من مدينة إيلات إلى وادي تمناع، ويتكون من 186 صفيحة فيها حوالي ثلاثة ملايين مسمار و6500 طن من الفولاذ، بحجة حماية مطار رامون الدولي الذي كان قيد الإنشاء آنذاك وافتتح في عام 2019. شمل السياج أبراج مراقبة ومعدات متقدمة بتكلفة 85 مليون دولار أميركي.

وتعتزم حكومة الاحتلال الشروع في إنشاء سياج آخر على طول الحدود الشرقية مع الأردن بذريعة حماية الحدود، ويُتوقع أن يكلف ذلك دولة الاحتلال مليارات الشواكل.

جزء من غيتو العجمي الذي أنشأه الاحتلال في يافا عام 1948


الأثر البيئي لهذه الجدران والسياجات العازلة

تأثير هذه الجدران العازلة كارثي على البيئة بكافة عناصرها، ويتباين التأثير بحسب المساحة المقتطعة لإقامة الجدار فوقها، ويكون كالتالي:

**/ قبل إنشاء الجدران تُجرف مساحات كبيرة من الأرض، ويُزال الغطاء النباتي ( نباتات كانت أو أشجاراً، برية أو زراعية) المتواجد في المناطق التي يعبرها السياج، ولا يغيب عن بالنا أن كل سياج يصل طوله إلى مئات الكيلومترات، وعرضه إلى عشرات الأمتار وعمقه كذلك.

**/ إزالة الغطاء النباتي في مناطق الجدران والسياجات يهدد التنوع الحيوي النباتي والحيواني.

**/ تفقد كثير من الطيور أعشاشها وأماكن تكاثرها ومصدر تغذيتها بفقدان الأشجار والنباتات.

**/ بإزالة الأشجار تخسر البيئة مصدراً مهماً لتنقية الهواء، واستهلاك ثاني أكسيد الكربون، وتستبدلها بكتل اسمنتية وإسفلتية.

**/ تعمل هذه الجدران العازلة والسياجات كحواجز فيزيائية تقطع على كثير من الحيوانات البرية مسارات تنقلها للبحث عن الغذاء والتزاوج والهجرة الموسمية ما يدفع ببعضها للجوء لمناطق مأهولة فتتعرض لخطر القتل والانقراض.

**/ كون غالبية هذه السياجات والجدران تحوي على أسلاك مكهربة، فإن ذلك يعرض الحيوانات للصعق الكهربائي والموت أثناء محاولات اجتيازها.

**/ تُدمر ينابيع ماء وعيون أثناء إنشاء هذه الجدران، والتي عادة ما تكون مصدر شرب للحيوانات البرية، وري المزروعات.  

**/ يتأثَّر جريان المياه السطحية بإنشاء الجدران العازلة، ويتسبب بتغيير مساراتها، الأمر الذي يؤدي لغرق مناطق أخرى، وانجراف تربتها، وتدمير التنوع الحيوي فيها.

**/ يؤثر إنشاء الجدران التي تخترق عمق الأرض على الانسياب المائي للخزانات الجوفية وتغذية هذه الخزانات، ما قد يتسبب بنقص مياه حاد لدى التجمعات السكنية التي تستفيد من تلك الخزانات.

**/ تخلق هذه الجدران واقعاً جديداً في التربة نتيجة سكب كميات ضخمة من مواد البناء( إسمنت ومواد معدنية وغيرها) عدا عن الأنظمة الكهربائية والإشعاعية والمجسات، الأمر الذي يحمل في طياته خطراً كامناً لا ندرك عواقبه.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023