مرتكزات النظرية الأمنية الإسرائيلية ما بعد طوفان الأقصى

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

قراءة في وثيقة غير رسمية



أولاً: بين يدي القراءة:

نشر موقع " الجزيرة نت"  نقلاً عن مجلة " فورين أفيرز" الأمريكية مقالة تحت عنوان " الاستراتيجية الأمنية بعد السابع من أكتوبر التي تقود الأفعال الإسرائيلية"،  كتبها مئير بن شابات، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، وبمشاركة أشر فريدمان، مدير ملف (إسرائيل) لدى معهد اتفاقيات إبراهام للسلام، نَظّر فيها الكاتبين لما يرون أنه يجب أن يشكل مرتكزات للنظرية الأمنية الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر؛ ليس بهدف الهيمنة، وإنما بهدف " إعادة تشكيل الترتيبات الأمنية في المنطقة منفردة( الكيان المؤقت) وبما يحمي مصالحها". تأتي هذه المقالة لقراءة وتحليل هذه الوثيقة غير الرسمية، بهدف استخلاص ما يمكن أن يطلق عليه: "مرتكزات النظرية الأمنية الإسرائيلية ما بعد طوفان الأقصى". 

ولكن قبل الخوض في هذا التحليل، لا بد من الإشارة وبشكل سريع إلى مرتكزات نظرية الأمن الإسرائيلية التي كانت حاكمة إلى ما قبل معركة " طوفان الأقصى". لقد كانت ركائز نظرية الأمن القومي الإسرائيلي إلى ما قبل حرب تموز 2006 تقوم على ثلاثة قواعد رئيسية هي: الردع، والإنذار المبكر، والحسم، ثم أضيف إلى هذه المنطلقات مفهوم الدفاع كركيزة رابعة تقوم عليها نظرية الأمن تلك. حيث شكلت صواريخ المقاومة اللبنانية، ومن ثم الفلسطينية تهديداً ذا مصداقية على عقبة العدو، وجبهته الداخلية، الأمر الذي فرض عليهم البحث عن وسائل حمايتها، والدفاع عنها، بحيث لا تشكل نقطة ضعف، أو مكمن ضرر، يمكن أن يستفيد منه أعداء الكيان المؤقت للضغط عليه إنطلاقاً منها. 

ثم جاء "طوفان الأقصى" الذي غير كل المعايير، وقلب كل الموازين، ووضع الكيان المؤقت أمام تهديد وجودي، وخطر محدق، جعله ــ العدو ــ يطلق على مواجهته، والتصدي له مصطلحات وأسماء عدة، منها: "حرب الوجود" و" حرب الاستقلال الثانية". كما شكلت طرق عمل العدو في التصدي لهذا التهديد محطة من محطات استخلاص العبر والدروس، ومنعطفاً تغيرت معه كثيراً من المفاهيم ومفاتيح الفهم التي كانت تستخدم لفهم هذا العدو؛ فسقطت مقولة أن العدو مردوع، أو أنه لا يتحمل خوض حرب تطول مدتها عن شهر إلى شهرين، أو أنه لا يتحمل تعطيل دورة حياته الاقتصادية مدداً طويلة، وأنه لا يتحمل الخسائر الكبيرة في الأرواح، وحل محل هذه المفاهيم، مفاهيم أخرى خرجت من رحم هذه المواجهة. إن أهم ما يمكن أن يُبحث عنه، ويُتقصى أثره من خلال ما يكتب العدو وينشر، أو من خلال تحليل سلوكه هو: الركائز والقواعد الرئيسية التي ستحكم سلوك العدو وتنعكس عليهمستقبلاً، خاصة تلك القواعد الأمنية أو العسكرية، الأمر الذي ستحاول أن تجيب عليه هذه المقالة، بشكل سريع ومختصر.

ثانياً: ركائز النظرية الأمنية الإسرائيلية الجديدة: 

إن قراءة ما جاء في المقالة المشار لها في بداية هذا الحديث، وتحليل ما جاء بين سطورها، يمكن أن يُستنبط منه مجموعة من المرتكزات الأمنية الجديدة التي تحكم فهم العدو للتهديدات التي تواجهه حالياً أو مستقبلاً، ومن ثم تصور سلكوه لمواجهة هذه التهديدات، ومن أهم هذه المرتكزات: 

  1. الإحباط المبكر للتهديدات:

لقد كان العدو إلى ما قبل معركة " طوفان الأقصى" مكتفياً بالتلويح بالقدرات، وعدم تشغيلها بشكل واسع، لتحقيق مبدأ الردع ومنحه مصداقية، بحيث يتجنب خوض المعارك التي ستنعكس سلباً عليه وعلى بيئته، وستفقدهم ميزة الأمن المطلوب لتكثيف استقدام المستوطنين، وانتشارهم في الأرض المحتلة، كأهم ركيزة من ركائز نجاح مشروعهم (الاستيطاني) في فلسطين. وقد أدى هذا المفهوم ـــ الردع ــ دوره بشكل مناسب إلى ما قبل الطوفان، حيث ثبت لدى العدو، أن أعداءه غير مردوعين، وأنهم يراكمون قدرات شكلت عليه، وبالدليل القاطع تهديداً وجودياً، هشم صورته، و(علّم) عليه، وأفقد جيشه المهابة، وأسقط عنه الحصانة. لذلك خلص من هذه المواجهة إلى درس مهم، مؤداه أنه لا يجب السكوت عن التهديد، وتركه يتبلور، ثم الخروج لمواجهته إن هوــ التهديد ــ خرج إلى حيز التنفيذ، وإنما يجب الخروج في عمل استباقي لتحييد التهديد وهو في طور التشكل، والقضاء عليه في مهده. 

  1. الاستقلال الاستراتيجي: 

إن الخروج لضرب التهديد في مهده، والقضاء عليه في عقر داره، يتطلب استقلالاً استراتيجياً، وعلى كل الصعد: في أخذ القرار السياسي السابق للفعل، وفي تعبئة القدرات وتشغيلها، وفي إدامة المعركة وإمدادها، وفي إدارة المفاوضات السياسية التي تتخلل الحرب أو تعقبها. إن هذا الاستقلال مطلوب لتحرير صاحب القرار السياسي؛ فضلاً عن آمر تشغيل القدرات العسكرية مما يمكن أن يمارس عليه من ضغوط؛ من الحليف القريب، فضلاً عن الصديق البعيد، وهذا ما رأينا كثيراً من قرائنه الدالة عليه خلال هاتين السنتين الماضيتين. 

  1. لا خطوط حمر أمام التعاطي مع التهديدات: 

إن هذه الركيزة رأينا شواهدها في لبنان، وإيران، وسوريا، ثم أخيراً في قطر. لقد خرج العدو إلى حرب سماها وجودية، خاضها بمعالة صفرية، أسقط معها كل الخطوط الحمر، ولم يراعي في حركته السياسية أو العسكرية أي من القوانين والأعراف الدولية أو المحلية التي تحكم النزاعات والحروب والمعارك العسكرية؛ فقتل قادة الصف الأول في المقاومة، وهذا قد يكون مفهوم على اعتبار أن هؤلاء القادة ليسوا ذوي حصانات سياسية أو دبلوماسية رسمية، وإن كانت أعراف الحرب تمنع من التعرض لهم، لاعتبارات متعلقة بطرق ختم النزاعات وانهائها، ثم إنه لم يكتف بضرب هذه الشخوص الاعتبارة، بل استهدف من يتمتعون بصفات رسمية؛ ففي إيران استهدف الصف الأول لقيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهم المحمييون؛ نصاً وعرفاً من أن يُـتعرض لهم في الحروب، لمكانتهم الرسمية في دولهم. إن العدو يخوض حروبه وصراعاته بعد معركة "طوفان الأقصى" بلا خطوط حمر، فلا تُتجاوز، ولا أعراف، فتراعى. 

هذه ثلاث ركائز يمكن أن تُستشف وتستنبط من خلال قراءة ما جاء في المقالة المشار لها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ما حَكم نظرية أمن العدو ما قبل الطوفان من مفاهيم كالردع و الإنذار المبكر، والحسم والدفاع، وأهمية وجود حليف دولي يسناد، كلها مبادئ ما زالت سارية المفعول، ويستفاد منها، ويرتكز عليها.     

ثالثاً: أهداف النظرية الأمنية: 

وحتى تحقق نظرية الأمن القومي للكيان المؤقت غياتها الرئسية المتمثلة في إعادة ترتيب المنطقة أمنياً بما يخدم مصالح العدو الحيوية والإستراتيجية، لا بد أن تحقق جملة من الأهداف من أهمها: 

  1. السيطرة على الأرض، وهذا ما يسعى له في غزة والضفة الغربية، فضلاً عن سوريا.
  2. تعديل الحدود، بحيث تمكنه السيطرة الفعلية حالياً، من التعديل مستقبلاً؛ بفعل الأمر الواقع، أو من خلال تفاهمات واتفاقات سياسية، يعمل على إنجازها باستخدام مختلف عناصر القوة، وأوراق الضغط.
  3. العمل العسكري بأهداف وغايات طموحة، حيث رأينا مصداق هذا الأمر في حرب 12 يوم مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث دخل معها الحرب بسقف تغيير النظام، وإسقاط الحكم!! 

رابعاً: الوسائل وطرق العمل: 

تحقيقاً لهذه الأهداف، فإن وسائل وطرق عمل العدو يمكن اختصارها بــ: 

  1. قدرات ذاتية مرتبطة بالوسائط والوسائل العسكرية والأمنية والاقتصادية والتكنلوجية، وفي هذا تفصيل.
  2. قدرات رديفة، مرتبطة بما يمكن أن يعقده من تحالفات وصداقات، إقلمية ودولية، تمكنه من سد ثغرات، وتقوية نقاط ضعف، وستر مكامن ضرر، في مختلف المجالات والموضعات. 

خامساً: توصيات كلية في سبل المواجهة الاستراتيجية: 

  1. إعادة تعريف التهديد والمخاطر الناتجة عنه.   
  2. إعادة تعريف المصالح القومية والحزبية والحركية. 
  3. إعادة تعريف قواعد الاشتباك مع هذا العدو، بما يتناسب مع عدو لا يقف عند خطوط حمر، ولا يراعي أعرافاً أو قوانين.
  4. إعادة تعريف التحالفات والصداقات والعلاقات. 

ثم يبنى على الشيء مقتضاه. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. 

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025