زلزال الردع وموت الأسطورة: كيف أعادت "حرب غزة" رسم خريطة القوة في الشرق الأوسط؟

مقدمة: إعادة صياغة موازين الردع والشرعية

تُمثّل حرب غزة (2023–2025) نقطة تحوّل محورية في ديناميكيات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي والشرق أوسطي برمّته. فما بدأ كصدمة عسكرية وأمنية غير مسبوقة في السابع من أكتوبر 2023، تحوّل تدريجياً إلى اختبار حاسم للاستراتيجيات العسكرية، ومفاهيم الردع، والشرعية الدولية والإقليمية. 

لم تكن هذه الحرب مجرد جولة عنف أخرى؛ بل كانت عملية تفكيك ممنهجة لأسس التفوّق الإسرائيلي الذي ساد لعقود، وعملية إعادة بناء لفلسفة المقاومة في الحروب غير المتماثلة.

لقد كشفت التحولات النوعية التي فجّرتها الحرب عن أن موازين القوى لم تعد تُقاس حصراً بالتفوّق التكنولوجي أو العسكري الساحق، بل بالإرادة، والقدرة على الصمود، والمرونة التنظيمية، وتعميق الحاضنة الشعبية، والنجاح في تدويل الصراع، وهو ما شكّل خروجاً عن المنطق التقليدي للردع القائم على التفوّق المطلق. 

يهدف هذا التقرير إلى تحليل هذه التحولات النوعية في موازين القوى عبر سبعة محاور رئيسية، بدءاً من تآكل منطق الردع الإسرائيلي، مروراً بتفكيك أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر"، وصولاً إلى ترسيخ "فلسفة البقاء" لدى المقاومة كاستراتيجية وجودية.

المحور 1: قلب منطق الردع — من الردع بالتفوّق إلى الردع بالإرادة

شكلت حرب غزة أكبر تحدٍ لمفهوم الردع الإسرائيلي منذ حرب أكتوبر 1973. فقد كان الردع الإسرائيلي يقوم على أساس التفوق التكنولوجي والعسكري الساحق، والقدرة على توجيه ضربة استباقية أو رد عنيف يكسر إرادة الخصم. بيد أن هجوم 7 أكتوبر 2023، وما تلاه من صمود، أحدث «الخدش الحادّ الذي سبّبه الهجوم في الإيمان بفاعلية موقف الردع الإسرائيلي».

لقد اعتمدت إسرائيل طويلاً على أنظمتها الدفاعية المتطورة مثل القبة الحديدية (Iron Dome) ونظام "آرو" (Arrow) كخط دفاع أول يرسّخ تفوّقها الجوي وقدرتها على امتصاص الصدمات الصاروخية. وبالفعل، تُظهر الإحصاءات الرسمية أن هذه الأنظمة حققت مستويات نجاح عالية، حيث تقول إسرائيل إن لديها معدل نجاح يتجاوز 90%. وفي الإطار ذاته، أوضحت رويترز أن «المظلّة الدفاعية حقّقت نجاحًا بنسبة 80 أو 90%، لكن لا نظام يبلغ 100%».

غير أن المقاومة نجحت في تجاوز حاجز "الردع بالتفوق" عبر استراتيجية الإغراق الكمّي. فوفقاً للجيش الإسرائيلي، «خلال أسبوعين فقط، أطلقت حماس 7,000 صاروخًا نحو إسرائيل». هذا التدفق الهائل للصواريخ، خاصة في الساعات الأولى للهجوم، تجاوز قدرة الأنظمة الدفاعية على الاعتراض الكامل، واخترق بشكل فعلي الحاجز النفسي والأمني للتفوّق الإسرائيلي.

لم يتوقف التآكل عند الجانب المادي للردع، بل امتد إلى الجانب المعنوي والأخلاقي. ففي محاولتها لاستعادة صورة الردع، لجأت إسرائيل إلى عملية عسكرية واسعة النطاق في قطاع غزة، تسببت بدمار هائل. وقد أشارت مؤسسة بروكينغز إلى أن «الدمار الواسع وحصيلة الوفيات التي بلغت عشرات الآلاف جرّت على إسرائيل ازدراءً دوليًا غير مسبوق». وهكذا، أدى السعي لاستعادة الردع بالقوة المفرطة إلى ثمن باهظ من الشرعية الدولية، ما قلَب منطق الردع من تفوّق عسكري إلى تحدٍ لإرادة الخصم وقدرته على الصمود في وجه الإبادة المنظمة، وهو ما أثبتت المقاومة قدرتها عليه.

المحور 2: تفكيك أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر": اختراق الحواجز

لطالما اعتمدت إسرائيل في استراتيجيتها الوجودية على مفهوم "الجيش الذي لا يُقهر"، المدعوم بأجهزة استخباراتية تعدّ الأكفأ في المنطقة، وحاجز أمني تكنولوجي فاصل حول قطاع غزة. لكن هجوم 7 أكتوبر 2023 نجح في اختراق هذه الحواجز الاستراتيجية على كافة المستويات، فنسف أسطورة التفوق المطلق.

كان الإخفاق الاستخباراتي هو النقطة الأبرز في هذا التفكيك. فقد أشارت مؤسسة راند إلى وجود «فشل استخباري تضخّم في الحالة الإسرائيلية بحكم انخراطها في صراع طويل». وتوافقت هذه القراءة مع تحليل معهد تشاتام هاوس، الذي أكد أن «هجوم حماس كشف عن عيوب خطيرة في جاهزية الجيش الإسرائيلي ونسف أسطورة عدم القهر».

كما أن الإخفاق لم يقتصر على الجانب الاستخباراتي فحسب، بل شمل الجانب الأمني والعملياتي؛ فوفقاً لمعهد الشرق الأوسط، «لم يكن الأمر فشلاً استخبارياً فحسب؛ يبدو أنه أيضاً فشل أمني». هذا التراكم في الإخفاقات عزز الشعور بعدم الأمان داخل المجتمع الإسرائيلي، ما قاد إلى نتيجة حتمية عبر عنها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بالقول: «شعر كثير من الإسرائيليين أنهم لم يعودوا قادرين على التعويل على الردع بعد فشله أمام حماس في 7 أكتوبر».

كانت أصداء هذه الإخفاقات عميقة على الصعيد الداخلي الإسرائيلي. إذ أكدت مؤسسة بروكينغز أن «الإخفاقات الأمنية والاستخبارية ستتردد أصداؤها داخل دينامية سياسية إسرائيلية محتدمة بالفعل». وبالتالي، فإن ما حدث لم يكن مجرد هجوم عسكري عابر، بل كان زلزالاً استراتيجياً أدى إلى تفكيك المفهوم المتجذّر لـ"الجيش الذي لا يُقهر"، وأجبر الإسرائيليين على إعادة تقييم جوهر عقيدتهم الأمنية القائمة على الردع والتفوّق الاستخباراتي والحصانة العملياتية.

المحور 3: مرونة التنظيم.. من هيكل هرمي إلى كائن حيوي متجدد

في مواجهة القوة العسكرية الإسرائيلية الساحقة، عملت المقاومة على تطوير بنية تنظيمية وعسكرية تكرّس المرونة واللامركزية، ما سمح لها بالصمود وتكبد الضربات القاسية دون الانهيار الكامل. وبدلاً من التركيز على هيكل قيادي هرمي سهل الاستهداف، تحولت المقاومة إلى ما يشبه "الكائن الحيوي المتجدد" القادر على العمل كوحدات منفصلة.

تمحورت استراتيجية البقاء هذه حول شبكة الأنفاق، التي لم تكن مجرد ملاجئ، بل أصبحت شريان حياة ومنصة قيادة وتحكم. وقد وصف معهد ويست بوينت للحرب الحديثة حجم هذه الشبكة بأنه «قد تشمل الشبكة بين 350 و450 ميلاً من الأنفاق». هذه البنية التحتية المعقدة سمحت باستمرارية العمليات؛ إذ كشفت دراسة للجيش الأمريكي: «صمّمت حماس شبكة الأنفاق بدمج الكهرباء والتهوية وأنظمة الاتصالات». ما منح القيادة والسيطرة (C2) القدرة على البقاء في مواجهة القصف الجوي والتوغل البري.

ورغم استهداف القيادات، أكد تحليل لـ"راند" قائلا: «قد تكون قيادة حماس وسيطرتها منهَكة لكنها ما تزال متماسكة». هذا التماسك يعود بشكل كبير إلى تطبيق مبدأ اللامركزية في القيادة والتكيف البراغماتي، وهو ما تناولته دراسة في مؤسسة فلسطين للدراسات، "موضحة أن المقالة تبحث «قدرة حماس البراغماتية على التكيّف وبنيتها القيادية اللامركزية». ونتيجة لهذه المرونة، أصبح المشهد المتوقع للصراع يميل نحو الاستدامة. فبدلاً من توقع نهاية حاسمة وسريعة، ترى تقديرات مؤسسة واشنطن لسياسة الشرق الأدنى أن «النتيجة الأكثر احتمالاً هي صراعٌ منخفض الوتيرة طويل الأمد على نمط حرب العصابات». هذا يعني أن الحرب تحولت إلى تحدٍ للاستنزاف، حيث نجحت المقاومة في ترسيخ قدرتها على الصمود والتحول إلى قوة حرب عصابات قادرة على الاستمرار بفاعلية، ضامنةً بقاءها التنظيمي.

المحور 4: استراتيجية التدويل — تحويل ساحة المعركة إلى العالم

أدركت المقاومة مبكراً أن ساحة المعركة ليست محصورة في الجغرافيا الضيقة لقطاع غزة، بل تمتد لتشمل الساحة الدولية والرأي العام العالمي. ولذلك، اعتمدت على استراتيجية تدويل الصراع لتطويق إسرائيل دبلوماسياً وسياسياً، وتحويل الثمن العسكري الإسرائيلي إلى ثمن في الشرعية الدولية.

الدمار الهائل الذي خلّفته الحملة الإسرائيلية في غزة كان الوقود الرئيسي لهذه الاستراتيجية. وقد أشارت مؤسسة بروكينغز إلى أن «الدمار الواسع وحصيلة القتلى التي بلغت عشرات الآلاف جلبت لإسرائيل استنكارًا دوليًا غير مسبوق». هذا الاستنكار تحوّل إلى قرارات وتصويتات دولية، حيث صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بحسب اسشيوتد برس، بأغلبية ساحقة للمطالبة «بوقفٍ إنسانيٍّ لإطلاق النار في غزة».

لم يقتصر الأمر على تصويتات الجمعية العامة؛ بل امتد إلى محكمة العدل الدولية (ICJ)، التي أمرت إسرائيل باتخاذ إجراءات فورية وفعّالة لتمكين «المساعدات الإنسانية العاجلة». وتؤكد هذه التطورات على العزلة الدبلوماسية المتنامية لإسرائيل وحليفتها الرئيسية، اذ أوضحت رويترز أن «أظهرت تصويتات الجمعية العامة عُزلةً طاغية لإسرائيل والولايات المتحدة».

هذا التدهور في الموقف الدولي يمثل نجاحاً نوعياً لاستراتيجية تدويل الصراع، حيث أصبح الرأي العام العالمي عامل ضغط رئيسياً. وفي هذا السياق، نقلت رويترز عن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، تأكيده على أن ما يحدث «لا يُساعِد إسرائيل على صعيد الرأي العام العالمي». وبالتالي، نجحت المقاومة في تحويل تفوق إسرائيل العسكري إلى عبء أخلاقي وسياسي، ما أدى إلى تآكل خطير في رصيدها من الشرعية الدولية، وهو تحول استراتيجي في موازين القوى خارج حدود غزة.

المحور 5: تعميق الشرعية — الحاضنة الشعبية رأسمال استراتيجي

يُعتبر الدعم الشعبي المتزايد في الأراضي الفلسطينية رأس مال استراتيجياً نوعياً للمقاومة، يمنحها الشرعية الداخلية اللازمة لاستمرار الصراع ويفشل الأهداف الإسرائيلية لـ "اقتلاع" الحركة. وقد أظهرت استطلاعات الرأي الفلسطينية تحولاً كبيراً في الاتجاهات بعد اندلاع الحرب، ما يعكس تعميق الحاضنة الشعبية للمقاومة المسلحة.

أحد أبرز المؤشرات على هذا التحول هو استمرار دعم الجمهور الفلسطيني للعملية التي أشعلت الحرب. فوفقاً للمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية (PSR) في تقريره الصادر في يونيو 2024، «يستمر ثلثا الجمهور في دعم هجوم 7 أكتوبر». هذا الدعم لا يقتصر على غزة، بل يتمدد ليشمل الضفة الغربية، لا سيما في ظل تصاعد عنف المستوطنين. فقد أكد المركز ذاته في ديسمبر 2023 في دراسة «يرتفع الدعم للكفاح المسلّح، خصوصاً في الضفة الغربية، واستجابةً لعنف المستوطنين».

وتترجم هذه الشعبية المتزايدة إلى ارتفاع في توقعات الجمهور بشأن مستقبل المقاومة في الحكم. حيث أشار استطلاع ديسمبر 2023 إلى أن «يعتقد 72٪ أن حماس ستنجح في العودة لحكم قطاع غزة». وفي سياق متصل، أظهرت نتائج "الباروميتر العربي" ارتفاعاً كبيراً في شعبية حماس، مشيرة إلى أن «نتائج ما بعد حرب غزة تشير إلى ارتفاعٍ دراماتيكي في شعبية حماس بالضفة الغربية». هذا الارتفاع الدراماتيكي في الدعم الشعبي هو أهم إنجاز استراتيجي للمقاومة؛ فاستمرار الشرعية الداخلية والحاضنة الشعبية يجعَل مهمة إسرائيل في "القضاء على حماس" مستحيلة التنفيذ على المدى الطويل. كما أن الحرب نجحت في لفت انتباه العالم للقضية الفلسطينية مرة أخرى؛ حيث أكد "PSR" أن «أحيت الحرب على غزة منذ 7 أكتوبر الاهتمامَ الدوليّ مجدداً». هكذا، تحول الدعم الشعبي إلى قوة حاسمة تؤكد فشل الاستراتيجية الإسرائيلية في عزل المقاومة، وتكرّس مكانتها كفاعل وجودي يحظى بشرعية واسعة.

المحور 6: تشكيل التحالفات — تعزيز العمق الإقليمي الاستراتيجي

لم تكن حرب غزة (2023–2025) صراعاً ثنائياً بين المقاومة وإسرائيل، بل كانت اختباراً لجاهزية قوى المقاومة في الإقليم، وعاملاً لإعادة تشكيل الخرائط الجيوسياسية في المنطقة. وأظهرت الحرب أن المقاومة في غزة تستند إلى عمق استراتيجي إقليمي ودولي واسع، ما يعزز قدرتها على الصمود والاستدامة.

برز دور إيران وحلفائها، في مرحلة مبكرة، كداعم أساسي للمقاومة، ما يمنحها قدرة أكبر على التحمل. وأكدت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في قراءتها: «واصلت إيران تقديم الدعم السياسي والمادي لحماس والجماعات الحليفة». وقد أدت الحرب إلى تعزيز هذا التحالف/التعاون، حيث لفتت مجموعة الأزمات الدولية إلى أن «حرب غزة عززت الروابط بين إيران وحزب الله والفصائل الفلسطينية المقاومة». هذا الترابط الإقليمي يحوّل أي مواجهة مستقبلية إلى صراع متعدد الجبهات، ما يرفع من كلفة أي قرار إسرائيلي أو أمريكي بالمواجهة الشاملة.

وفي الوقت ذاته، أسهمت الحرب في إبراز الدور المحوري لدول أخرى في إدارة الأزمة، حيث أظهرت بروكنز، ان الأطراف الإقليمية «من قطر إلى مصر، سعت إلى الوساطة وتشكيل مسار الصراع». هذا التفاعل الإقليمي المتعدد الجوانب، سواء كان دعماً مباشراً أو وساطة سياسية، أكد أن الصراع أصبح حالة اختبار حاسمة للكتل الإقليمية الناشئة والتنافسات.

كما وضعت الحرب الدول العربية في مأزق، اضطرت فيه لموازنة علاقاتها مع واشنطن وغضب الشارع الداخلي. وأشار مجلس العلاقات الخارجية (CFR) إلى أن «حملة إسرائيل في غزة دفعت الدول العربية لموازنة علاقاتها مع واشنطن وغضب الشارع». وهكذا، لم تكن الحرب مجرد معركة عسكرية، بل كانت عملية ديناميكية لإعادة رسم التحالفات والتوازنات الإقليمية، ما عزز العمق الاستراتيجي للمقاومة وأضعف جهود إسرائيل لعزلها.

المحور 7: ترسيخ "فلسفة البقاء" استراتيجية وجودية

في الحروب غير المتماثلة، تتغير معايير النصر والهزيمة. لم يعد النصر يعني السيطرة الكاملة على الأرض أو تدمير الهيكل العسكري للخصم، بل القدرة على الصمود والبقاء والاستمرار في فرض معادلة جديدة. وقد نجحت المقاومة في ترسيخ "فلسفة البقاء" كاستراتيجية وجودية تحوّل مجرد الصمود إلى انتصار استراتيجي في وجه القوة الساحقة.

لقد أكدت التحليلات الاستراتيجية فشل إسرائيل في تحقيق هدفها المعلن بالقضاء على المقاومة الفلسطينية وحركة حماس. فبالرغم من القوة النارية الهائلة التي استخدمتها إسرائيل، رأت مجموعة الأزمات الدولية (ICG) أن «حملة إسرائيل فشلت في استئصال حماس، مما أبرز قوة بقائها اللافتة». ويُعزى هذا الفشل، وفق مؤسسة راند إلى المرونة التنظيمية التي تحدثنا عنها سابقاً، حيث ظلت قيادة حماس متماسكة، ضامنةً بقاءها التنظيمي.

من المنظور الاستراتيجي للمقاومة، يمثل هذا البقاء إنجازاً. فقد أكد معهد الشرق الأوسط (MEI) أنه «بالنسبة لحماس، مجرد البقاء في مواجهة تفوق إسرائيل يُعدّ شكلاً من أشكال النصر». هذا الصمود لم يكن مجرد صمود في الميدان؛ بل كان أيضاً قدرة على إعادة تشكيل رواية الصراع على الصعيد الدولي.

وأخيراً، فإن عجز إسرائيل عن إنهاء وجود المقاومة لا يضمن بقاء الحركة فحسب، بل يعزز الرواية الأساسية التي تستند إليها. وفي هذا الصدد، أفادت مؤسسة بروكينغز بأن «عجز إسرائيل عن القضاء على حماس يعزز رواية الحركة بالمقاومة الوجودية». 

وهكذا، تكون المقاومة الفلسطينية قد نجحت في ترسيخ معادلة استراتيجية جديدة تُحوّل الصمود إلى انتصار، وتُبقي على بؤرة الصراع مشتعلة كقضية وجودية ترفض الانطفاء، ما يمثل تحولاً نوعياً في موازين القوى التي لم تعد تقاس بالقدرة على التدمير، بل بالقدرة على التحمل والاستمرار.

خاتمة: معادلة قوة جديدة في الشرق الأوسط

تؤكد حرب غزة (2023-2025) أن المنطقة دخلت مرحلة جديدة تنهار فيها المفاهيم الأمنية التقليدية. لقد أثبتت الحرب أن القوة الصلبة والتفوق التكنولوجي لم يعودا كافيين لضمان الردع أو تحقيق النصر الحاسم، لا سيما في مواجهة قوة غير متماثلة تتقن فن البقاء والصمود.

إن التحولات النوعية في موازين القوى، من تآكل الردع الإسرائيلي وفشل أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر"، إلى تكريس المرونة التنظيمية وتعميق الشرعية الشعبية للمقاومة، كلها تشير إلى صعود معادلة قوة جديدة. في هذه المعادلة، يصبح الصمود الاستراتيجي والحاضنة الشعبية والقدرة على تدويل الصراع أسلحة أكثر فاعلية من الدبابات والطائرات. 

وفي الوقت الذي تراجعت فيه إسرائيل عن أهدافها المعلنة، وعانت من عزلة دولية غير مسبوقة، عززت المقاومة من دورها كفاعل إقليمي ووجودي قادر على تحدي التفوق المطلق.

وتبقى "فلسفة البقاء" للمقاومة هي الإطار الاستراتيجي الحاكم للمرحلة القادمة، حيث لا يمكن تحقيق الأمن الإسرائيلي دون اعتراف بحقوق الفلسطينيين. 

وعليه، فإن تداعيات حرب غزة ستستمر في إعادة تشكيل التحالفات والخطابات والسياسات، لتؤكد أن الطريق إلى الاستقرار في الشرق الأوسط يمرّ حتماً عبر حل يكسر منطق القوة التقليدي لصالح الإرادة والشرعية.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025