بينما تتنافس قوات دولية على غزة، حماس ترسّخ سيطرتها

 هآرتس

تسفي برئيل

حين يغادر نائب رئيس الولايات المتحدة، جيه دي فانس، الأجواء الإسرائيلية ويحلّ مكانه فورًا تقريبًا، ومن دون فسحة زمنية، وزير الخارجية ماركو روبيو، وحين يحرص الرئيس الأميركي دونالد ترامب على تلقي تقارير متواصلة من “الميدان”، فالمعنى أن الولايات المتحدة انتقلت إلى “إدارة دقيقة” لقطاع غزة، وأن إسرائيل تتحول إلى مُملية تدوّن الأوامر وتنفّذ وفقًا لها. هذا التطور الدراماتيكي يُسوّق في إسرائيل على أنه “تنسيق مواقف”. في الواقع هو إملاء يحقق رؤية أخرى لترامب، الذي حدّد في شباط الماضي، عندما روّج لخطة إقامة “الريفيرا الفاخرة” في غزة، أن “الولايات المتحدة ستسيطر على غزة” و”ستكون مالكتها”. ليست هذه “سيطرة أفراد”. كما في أفغانستان والعراق، بنت واشنطن ائتلافًا دوليًا مُعدًّا لتحمّل العبء الأمني والاقتصادي الثقيل الملازم لتطبيق خطة ترامب ذات العشرين نقطة. إلا أن مؤشرات القصور التخطيطي الذي قد يفضي إلى نتائج مشابهة تنكشف منذ الآن، كما كان في أفغانستان والعراق.

أما العيوب البارزة فقد كُتب عنها كثيرًا. فقوة دولية، عربية كانت أو غير ذلك، لم تُنشأ بعد، وكذلك تفتقد الخطة إلى برنامج تمويل لتشغيلها. تركيا ومصر، وربما أذربيجان والإمارات، أعربت علنًا عن استعداد للمشاركة في هذه القوة، لكن الشيطان في التفاصيل: كم جنديًا سيُطلب؟ من سيرأس القوة، جنرال أميركي أم مصري؟ بيد مَن تكون صلاحية تقرير أي قوات ستدخل؟ هل ستكون إسرائيل أم الولايات المتحدة؟ إسرائيل تعارض بشدة مشاركة قوات تركية وقطرية، والولايات المتحدة تفهم هذا الاعتراض، لكنها غير مؤكّد أنها ستتبنّاه.

وهذه ليست سوى مسائل فرعية، لأن الخلاف الجوهري يتصل بتوصيف مهام هذه القوات، وهو ما تتوقف عليه أيضًا استعداد الدول الشريكة لإرسال جنودها إلى غزة. “قوة الاستقرار الدولية” (ISF) كما تَرِد في خطة ترامب، مكلّفة بحفظ الأمن الداخلي في غزة، والعمل كقوة ردّ ضد الإرهاب وضد تهديدات عالية المخاطر، وحماية البنى التحتية والنشاط الإنساني، وتأهيل ومساعدة قوات شرطة فلسطينية يُفترض أن تدخل القطاع.

يُضاف إلى ذلك: “ستُدمَّر كل بنى الإرهاب التحتية ولن يُعاد بناؤها، وستُدار عملية نزع السلاح تحت إشراف دولي”، كما ورد في الخطة. ظاهريًا هذا تفصيل منظّم ومصاغ جيدًا. لكن بخلاف اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان الذي تُلقى فيه سلطة ومسؤولية تجريد حزب الله من سلاحه على عاتق الحكومة اللبنانية، لا تُحدّد خطة ترامب في أي موضع أن القوة الدولية في غزة هي التي ستجرّد حماس من سلاحها.

نظريًا، تتحدث عشرات الدول التي أعربت عن دعم الخطة بصوت واحد: كلهن مع وقف إطلاق النار وإعادة الأسرى، وكلهن مع تطوير غزة وإعمارها، وكلهن مع تحييد حماس عن أي سيطرة في القطاع. لكن يتضح أنه بعد المرحلة الأولى من الخطة، التي لم تُستكمل ما لم تُعد كل جثامين الأسرى القتلى، تتشكل في غزة جغرافيا سياسية جديدة قد تهدد الخطة برمّتها وتستدعي دروس أفغانستان.

بعد الانسحاب الأول تمسك إسرائيل بـ53% من مساحة القطاع، لكن في الـ47% المتبقية تقيم غالبية سكان غزة، وهناك تذهب حماس وتترسخ. كتب المحلل والباحث الأميركي اللبناني وليد فارس، الذي كان مستشارًا لترامب في ولايته السابقة وشارك في حملته الأولى، في مقال نشره بموقع “اندبندنت عربية” إن “حماس ستتمركز في المدن المركزية، وفي الاقتصاد والإعلام، وستسعى للانتفاع من كل مشروع اقتصادي. إذا لم تسلّم حماس سلاحها في ‘غزة الغربية’ (كما يسمي المنطقة التي تسيطر عليها حاليًا، ت.ب.) فستُسلّح إسرائيل ميليشيات فلسطينية في ‘غزة الشرقية’. وإذا لم تدخل قوة متعددة الجنسيات مع قوات من سلطة فلسطينية معتدلة ومتوافق عليها، فستقوم في غزة ميليشيتان وسلطتان فلسطينيتان قد تتعاونان بينهما أيضًا”.

ولتحليله ما يستند إليه، إذ تتحدث خطة ترامب نفسها عن أنه “إذا ما أخّرت حماس أو رفضت الاقتراح، فسيستمر الترتيب والمساعدات في المناطق النظيفة من الإرهاب التي تُنقل من سيطرة الجيش الإسرائيلي إلى القوة متعددة الجنسيات”، وبذلك تستشرف الخطة مسبقًا إمكانية قيام “قطاعيْ غزة”.

لم تُنشأ القوة الدولية بعد، لكن المشكلة الأساسية خلاف جوهري حول مهامها

بحث نُشر قبل نحو عامين في مجلة كلية الحرب للجيش الأميركي لخّص في تسعة صفحات إخفاقات تدخل القوة متعددة الجنسيات في أفغانستان. في المقدمة: “الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة في أفغانستان صيغت بصورة سيئة، غير متسقة، وطُبقت بشكل اعتباطي تابع لطبيعة الإدارة في سنة معينة وللقيادة العسكرية المسؤولة حينها.

هل كان الهدف مقاتلة قوى تخريبية؟ إعادة بناء الدولة؟ الإرشاد والمساعدة وبناء ديمقراطية؟ تفاقمت المشكلة بسبب كثرة الحلفاء والشركاء وباقي الأطر (كالمنظمات غير الحكومية) التي جاءت بأجنداتها وأساليب عملها الخاصة إلى النشاط في أفغانستان”.

التطور الذي يتوقعه فارس سيكون أرضًا خصبة لتطبيق “أجندات استراتيجية خاصة” ستسعى الدول التي وقّعت في شرم الشيخ على “إعلان ترامب” الأسبوع الماضي إلى دفعها قدمًا—مصر وقطر وتركيا—وستكون ضامنة لتطبيق الخطة فيما ستكون إسرائيل مجرد متفرج. قبل نحو أسبوعين أعلن وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي أنه جرى تركيب قائمة من 15 شخصية ستشكّل “مجلس الإدارة المؤقت”، وأن “القائمة اتُّفق عليها مع كل الفصائل الفلسطينية ومن ضمنها حماس”.

لم يرَ عبد العاطي في ذلك تناقضًا مع التأكيد أن حماس لن تكون شريكًا في إدارة غزة، وكذلك قطر وتركيا صادقتا على القائمة.

لا يفيد أن ننسى أن ترامب نفسه قال إنه لا مشكلة لديه في أن تكون حماس “مؤقتًا” مسؤولة عن الأمن الداخلي، ووفق تقارير في وسائل إعلام عربية، تدير قطر وتركيا مباحثات مع الإدارة الأميركية حول “تعديلات” على خطة ترامب ستأمر حماس “بوضع سلاحها جانبًا” لكنها ستؤجل عملية نزع السلاح إلى مرحلة لاحقة. متى تحين هذه المرحلة؟ ربما عندما تُقام دولة فلسطينية كما تطالب حماس.

بين تركيا ومصر

شدّ الحبل في غزة بين ما يبدو ائتلافًا أميركيًا تركيًا قطريًا وبين إسرائيل ليس سوى مرحلة في بطولة متعددة الفرق. فحتى بين الشريكات العربيات، خصوصًا بين مصر وبين قطر وتركيا، لا تسود حياة وردية. تمتلئ العلاقة بذكريات مُرّة شكّلت على مدى سنوات علاقاتها وقد تؤثر على طريقة تعاملها مع مستقبل غزة.

أحد أحداث المفصل التي ثبّتت علاقة مصر بتركيا على مدى نحو اثني عشر عامًا وقع في أيلول 2011، حين حطّت في مصر بعثة تركية كبيرة برئاسة رجب طيب أردوغان، وكان آنذاك رئيس وزراء تركيا، قبل أن يُنتخب رئيسًا بعد ثلاث سنوات.

كانت مصر حينها في انتقال عاصف بين إسقاط الرئيس حسني مبارك إثر ثورة الربيع العربي وبين انتخابات أوصلت إلى الرئاسة ممثل الإخوان المسلمين محمد مرسي. كانت الاستقبالات فخمة كما يليق، والجمهور المحب يهتف: “أردوغان، أردوغان، يزلزل مقاعد الطغاة”. لأردوغان كانت فرصة تاريخية لترسيخ قبضة تركيا في مصر، خاصة بعد البرودة العميقة التي وسمت علاقاته بمبارك، وليس به وحده.

تصنّف إسرائيل تركيا “دولة الإخوان المسلمين”، لكن في عام 2007 نشر محمد مرسي مقالة طويلة مفصّلة شرح فيها لماذا لا يمكن لتركيا، وحزب العدالة والتنمية، وحزبه أردوغان، وأردوغان نفسه، أن يكونوا حلفاء لحركة الإخوان المسلمين. ليس فقط لأن تركيا عضو في الناتو، منظمة تتحمل مسؤولية قتل مسلمين وعرب، ولا فقط لأنها تعترف بإسرائيل وتقيم معها علاقات دبلوماسية وروابط أمنية.

“أعلن حزب العدالة والتنمية التركي أنه يقرّ ويرضى بعَلمانية تركيا وفق التفسير الغربي. هنا يكمن الفارق الكبير بينه وبين هدفنا الجوهري الهادف لأن تكون للمسلمين دولة مسلمة وليس دولة دينية وفق تعريفها المضيّق كما يفهمها الغرب”، كتب مرسي، مضيفًا: “هذا أيضًا هو الفرق بين الدولة المصرية التي يعيش فيها الإخوان المسلمون وفق الدستور الذي ينص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام وأن أحكام الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع… وبين تركيا التي ينص دستورها على أنها دولة علمانية”.

لا يمكن أن يكون إسلام تركيا هو إسلام مصر أو أي دولة مسلمة، هذا ما قرره فقهاء الإخوان آنذاك.

ظنّ أردوغان—الذي اعتقد أن بإمكانه في زيارته لمصر عام 2011 رأب الصدع الأيديولوجي بينه وبين الإخوان المسلمين وأن يحوّل تركيا إلى مرشد للحكم الجديد—ارتكب خطأ فادحًا عندما قال في مقابلة صحافية: “أمنيتي أن تكون مصر دولة علمانية تحترم كل مكونات المجتمع… الدولة العلمانية لا تعني أن الشعب علماني. ها أنا لست علمانيًا وأنا رئيس وزراء دولة علمانية”.

لم تتأخر ردة فعل الإخوان المسلمين المدوّية. “نرحّب بتركيا وبأردوغان كقائد استثنائي بين قادة المنطقة، لكننا لا نرى أنه أو بلاده يمكنهما وحدهما قيادة المنطقة أو صياغة مستقبلها”، حسم الدكتور عصام العريان، نائب رئيس حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان المسلمين. “الدول العربية ليست بحاجة لمشاريع خارجية. هذه يجب أن تنبع من داخل الأنظمة العربية، خصوصًا أنه بعد ثورات الربيع العربي ستكون الأنظمة ديمقراطية”، تنبأ العريان، الذي اعتُقل بعد أن عزل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مرسي في يوليو 2013 وأعلن حربًا ضروسًا على الحركة.

تحطمت حسابات أردوغان السياسية والاقتصادية حينها دفعة واحدة، وفتح حساب طويل ومرّ بينه وبين السيسي. لم يعترف أردوغان بشرعية حكمه، ونصّب نفسه حامي الإخوان المسلمين ومنح ناشطيهم الذين نجحوا في الفرار من مصر ملاذًا آمنًا وحتى جنسية.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025