صحيفة معاريف
د. أنات هوشبرغ-ماروم
إن العلاقة بين الرئيس الأميركي وولي العهد السعودي قد تكون مثيرة للقلق، ولكنها قد تعود أيضاً بفوائد على إسرائيل، لأن الجمع بين مزايانا التكنولوجية وقوة الرياض المالية والطاقة لديه القدرة على خلق شرق أوسط جديد حقاً.
الدكتورة عنات هوشبيرج-ماروم
هزّ الهجوم الإسرائيلي الاستثنائي على الدوحة، عاصمة قطر ، الشهر الماضي دول الخليج، وعمّق الشكوك حول التزام الولايات المتحدة الأمني تجاهها. بعد ذلك بوقت قصير، وُقّعت اتفاقية دفاع غير مسبوقة بين واشنطن والدوحة، تتضمن التزامًا أمريكيًا بأن أي هجوم على قطر سيُعتبر تهديدًا مباشرًا لأمن الولايات المتحدة. تُحسّن هذه الاتفاقية، التي وُقّعت بأمر رئاسي، وتمنح قطر "مظلة حماية" أمريكية، مكانتها في العالم العربي، وتُمثّل نقطة تحوّل جذرية في العلاقات بين واشنطن والخليج.في الوقت نفسه، وقّعت المملكة العربية السعودية اتفاقية أمنية مع باكستان، الدولة التي تمتلك نحو 170 رأسًا نوويًا، وتُطوّر صاروخًا باليستيًا عابرًا للقارات قادرًا على حملها والوصول إلى الولايات المتحدة، تتضمن شراكة عسكرية ونووية إلى جانب مساعدات اقتصادية واسعة. تعكس هاتان الاتفاقيتان توجهًا واضحًا نحو تشكيل تحالفات ثنائية جديدة، في ظل تزايد الغموض السياسي وانعدام اليقين الأمني. كما تُشيران إلى تشكيل فضاء جيوسياسي وجيواقتصادي جديد ناشئ حاليًا في الشرق الأوسط، وله تأثيره على الساحة الدولية.
وعلى خلفية هذه التطورات، تقود واشنطن مفاوضات متقدمة مع الرياض لصياغة اتفاقية دفاعية جديدة، تستند إلى التحالف التاريخي الموقع بين البلدين عام 1945. وبحسب تقرير في صحيفة فاينانشيال تايمز، من المتوقع توقيع الاتفاقية خلال زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان المقبلة إلى واشنطن، وتتضمن آلية ردع متبادل - على غرار المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي - والتي بموجبها يعتبر الهجوم على أحد الحلفاء هجوماً عليهم جميعاً.
تركيا اتخذت قرارًا دراماتيكيًا: "إسرائيل تمتلك الجيش الأكثر تقدمًا في الشرق الأوسط"
وبعيدًا عن البعد العسكري، من المتوقع أن تُعمّق الاتفاقية الشراكة الاقتصادية بين البلدين، لا سيما في مجالات الطاقة والأمن والتكنولوجيا والبنية التحتية. وقد بلغ حجم التجارة الثنائية بينهما 32 مليار دولار في عام 2024، وبلغت الاستثمارات الأمريكية في المملكة 15.3 مليار دولار. وفي إطار منتدى الاستثمار السعودي الأمريكي الذي عُقد في مايو الماضي بالرياض، أُعلن عن استثمارات سعودية في الولايات المتحدة بقيمة إجمالية 600 مليار دولار، من بينها استثمارات في شركات مثل أوبر وتسلا، وذلك من خلال صندوق الثروة السيادية السعودي، والتي تُقدّر قيمتها بنحو 913 مليار دولار (بزيادة قدرها 19% عن عام 2023). وتُجسّد هذه الخطوة طموح المملكة في تنويع اقتصادها، وسعي ترامب وبن سلمان لتوسيع الشراكة الاستراتيجية لتشمل مجالات رئيسية تشهد نموًا سريعًا، وفي مقدمتها الذكاء الاصطناعي والرقائق الإلكترونية.تتبلور خريطة التحالفات
في منظور استراتيجي شامل. ومن المتوقع أن يكون للاتفاق الناشئ تأثيرٌ كبير على توازن القوى في الشرق الأوسط، وخاصةً على مكانة إسرائيل الإقليمية وتصورها الاستراتيجي. في ضوء سلسلة من التغيرات الجذرية - اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وضعف إيران و"محور المقاومة"، وانهيار نظام الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الروسي، وتقوية تركيا والمحور المعادي لإسرائيل الذي تقوده مع قطر - تُعزز إدارة ترامب انخراطها الاستراتيجي في المنطقة. كل هذا بهدف إعادة تشكيل خريطة التحالفات والمصالح، وتعزيز مصالح واشنطن الجيوستراتيجية والاقتصادية في الخليج العربي، وكبح النفوذ المتزايد للمنافسين العالميين والإقليميين، وفي مقدمتهم الصين وروسيا وإيران.
في الوقت نفسه، يعزز البلدان تعاونهما الاستراتيجي في مجالات الطاقة النووية، واستكشاف الفضاء، والتعدين، والصناعة، والطاقة المتجددة، وهي شراكات تُعزز الترابط والتأثير المتبادل. وفي إطار خطتها الوطنية البالغة 80 مليار دولار للانتقال إلى الطاقة الخضراء، تُعدّ المملكة العربية السعودية وجهةً جاذبةً لشركات أمريكية مثل إيروسيل وسبيريتس، بهدف الترويج لتقنيات مبتكرة للحد من انبعاثات الكربون. إضافةً إلى ذلك، تعهدت المملكة باستثمار 20 مليار دولار في إنشاء مراكز بيانات في الولايات المتحدة تُركز على الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية المتقدمة للطاقة.علاوة على ذلك، فإن موقعها الاستراتيجي - عند ملتقى الطرق بين آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط - يجعلها مركزًا دوليًا للتجارة والطاقة والخدمات اللوجستية.
ومع توسع الاستثمارات الأمريكية في النقل والطاقة والتكنولوجيا، مع التركيز على الذكاء الاصطناعي والابتكار الأمني، ستزداد أهمية المملكة العربية السعودية الجيوسياسية والاقتصادية، لتصبح ركيزة وقوة مؤثرة في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط.
من وجهة نظر إسرائيلية، فإن التطبيع مع المملكة العربية السعودية - أقوى اقتصاد في الشرق الأوسط (ناتج محلي إجمالي يبلغ 1.27 تريليون دولار، ونمو متوقع بنسبة 4% بحلول عام 2025، وفقًا لصندوق النقد الدولي) - من شأنه أن يفتح لإسرائيل أبوابًا لواحدة من أكثر الأسواق ربحية وتأثيرًا في المنطقة. وبعيدًا عن البعد السياسي-الدولي والقضية الفلسطينية، يُعدّ هذا تحولًا اقتصاديًا هامًا، من شأنه أن يسمح لإسرائيل بالاندماج في فضاء من الفرص بمليارات الدولارات في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والنقل والخدمات اللوجستية والمالية والسياحة.ستتمكن الشركات الإسرائيلية، لا سيما في مجالات الأمن السيبراني والتكنولوجيا الزراعية والطاقة المتجددة، من المشاركة في مشاريع البنية التحتية في إطار الرؤية الطموحة لولي العهد السعودي. إضافةً إلى ذلك، قد تتدفق الاستثمارات السعودية إلى شركات التكنولوجيا الفائقة والتكنولوجيا المالية والذكاء الاصطناعي وابتكارات الطاقة في إسرائيل، وتساعد في إنشاء المناطق الصناعية وتعزيز المشاريع المشتركة. على سبيل المثال، في مجالات تخزين الطاقة وتحلية المياه والنقل، من بين مجالات أخرى، كجزء من إنشاء IMEC - الممر الاقتصادي الذي يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا.
من منظور جيوسياسي واستراتيجي واسع، يُمكن للجمع بين القوة المالية والطاقة للمملكة العربية السعودية والتفوق التكنولوجي لإسرائيل أن يُعيد تشكيل المشهد الجيواقتصادي الإقليمي، ويُعزز الابتكار، ويُنشئ محركات نمو في الخليج العربي تمتد آثارها إلى الشرق الأوسط بأكمله. سيُعزز التطبيع نفوذ إسرائيل ومكانتها الاستراتيجية كجزء لا يتجزأ من البنية الاقتصادية والأمنية للمنطقة، ويجعلها ملتقى طرق محوريًا بين أوروبا وآسيا والخليج.مع ذلك، تنطوي هذه الخطوة على مخاطر كبيرة: فقد تُثير معارضة شرسة من جهات إقليمية فاعلة، مثل إيران وشبكتها من القوى "الوكيلة"، إلى جانب تركيا وقطر والمحور المعادي لإسرائيل؛ وتزيد من التوترات الداخلية في المملكة العربية السعودية، وفي الوقت نفسه، على الساحة الفلسطينية؛ وتُعرّض إسرائيل لتحديات سياسية في مواجهة الدول العربية المعارضة لاتفاقيات إبراهيم وتطبيع العلاقات معها. لذا، يعتمد نجاح هذه الخطوة على التوازن الهش بين تحقيق المصالح السياسية والأمنية والاقتصادية، والقدرة على احتواء وإدارة التبعات العديدة لهذا التحول الجذري في خريطة الشرق الأوسط.الكاتب خبير في الجغرافيا السياسية والأزمات الدولية والإرهاب .