Ynet
مِيراف بَطّيتو
ترجمة حضارات
من المبكر تقدير عدد لوائح الاتهام التي سيثمر عنها الأسبوع المنصرم، لكن إذا حكمنا وفق حجم التحقيقات والاعتقالات وعرقلة الإجراءات، والعدد المبالغ فيه من كبار المسؤولين والشخصيات العامة الذين اضطروا في الأيام الأخيرة إلى إيجاد محامين لأنفسهم، فيمكن تمامًا الاتفاق على أننا نبدأ نقترب من معيار متوسط على المستوى المهني لدولة من العالم الثالث في جنوب شرق آسيا.
محسوبيّة كنمط حياة، والقرب من “الصحن” كغاية منشودة، واستغلال العلاقات كمسار طبيعي لتعميق الأُلفة بين رأس المال والسلطة، انكشفت الواحد تلو الآخر أمام الجمهور الإسرائيلي المصدوم الذي يحتاج بين حين وآخر إلى تذكير: ليست إعصارًا ضرب منطقتنا، بل زلزال مدني بقوة متوسطة قد يطيح بنا آخر قلاع الديمقراطية.
اهتزّ المكان في الهستدروت، وفي النيابة العسكرية العامة، وفي السلطات المحلية، وفي كل ساحة إسرائيلية لا يزال يجلس فيها جنبًا إلى جنب ناخبو أحزاب مختلفة نجحوا رغم الساسة في العثور على المشترك بينهم.
يتبيّن أنّ مدعيةً عسكرية عامة كمديرٍ عامٍ للهستدروت، ورؤساء مدن كأصحاب أعمال، وصحفيين كوزراء في الحكومة، جميعهم بلا فرق دينٍ أو صلاحيةٍ أو ميلٍ سياسي يعرفون كيف يخفون الحقيقة، ويخالفون القانون، و“يفقدون” الهاتف في أكثر وقتٍ يحتاجون إليه، لا يوجد هنا “طيّبون” و“أشرار”، بل طمسٌ كامل للحدود، وحركةٌ تكتونية للقيم، وحريةٌ مطلقة لتأويل الواقع ولخداع الرأي العام.
حتى لو لم تُقَدَّم لوائحُ اتهام ضد كبار الهستدروت بشأن علاقات “أَخْذٍ وَعَطَاء” داخل العائلة في إطار مناصبهم العامة، وحتى لو لم تُتَّهَم المدعية العسكرية العامة بعرقلة إجراءات التحقيق أو بعدم قول الحقيقة أمام المحكمة العليا، وحتى لو لم يُقَل رؤساءُ المدن على خلفية تورّط خبيث مع مقاولين من غير طريق المناقصات، فالإحساس أننا رأينا ما يكفي.
فهمنا الحدث حتى من دون ختمٍ قضائي: حرّاس بواباتٍ خانوا مهامهم ونهبوا من الجمهور ما تبقّى لديه من ثقة بأفكار مثل حقوق العمال، وحرية التنظيم، ونظافة الأدلة، وحقوق المشتبهين، ونزاهةٍ بلدية، وصحافةٍ جريئةٍ وإعلامٍ حر.
كان لديهم ممّن يتعلّمون
وزراءُ الحكومة ورئيسها كانوا الأوائل في اقتحام مؤسسةٍ مدنية من نوع المحكمة العليا منذ كانون الثاني/يناير 2023، حين نجحوا في تشكيل ائتلاف وأعلنوا فورًا عزمهم على استخدامه لتغيير نظام الحكم، ومنذ ذلك الحين لم يتوقفوا. وزيرةُ مواصلات تتاجر بـ“ألماسٍ بشري”، ووزيرُ تربيةٍ يجني العسل من خليته، ووزيرُ ثقافةٍ يدفع بتعيين وليّ عهد، ورئيسُ كنيست يُقصي رئيس المحكمة العليا، ووزيرُ عدل يحاول إقالة المستشارة القانونية للحكومة، ووزيرُ مالية يسطو على الميزانيات، ووزيرُ اتصالات منفصل عن حق الجمهور في أن يعرف.
وهناك أيضًا وزيرٌ للأمن القومي حرص على تعريض حياة المخطوفين في غزة للخطر، ووزيرُ تراثٍ إسرائيلي ممّن بين هواياته الأخرى الشماتة بالصحفيين ومشاركة أن “في السجن سيكون مؤمَّنًا جيدًا”، كما غرّد أمس ردًا على خبرٍ حول حماية غاي بليغ.
الفصل الحالي في حياة المجتمع الإسرائيلي يُكتب من تلقاء نفسه ويُصاغ في الزمن الحقيقي على صورة نوعيْن من الكاذبين: أولئك الذين اختاروه من موقع قوة، وأولئك الذين اضطروا لاختياره من موقع ضعف، النتيجة هي انحدارٌ جماعي على منحدرٍ زلق من الدسائس والمؤامرات، وتحطّمٌ صاخب لعالمِ قيمٍ صار بلا قيمة.
اعتقالُ المدعية العسكرية العامة وزَجُّها في السجن هو النهاية الوحيدة المتوقَّعة في قضيةٍ بدأت باقتحامٍ منظّمٍ من “عصابة الحكم” لقاعدةٍ للجيش الإسرائيلي؛ ومن تصرّف بإجرام وحَرّض ضد جنود الجيش محقّقي الشرطة العسكرية الذين جاءوا لاعتقال مشتبهين، نجح في النهاية بإخافة اللواءَة المكلّفة بما يكفي لتقترف كل خطأ ممكن.
الفساد الذي انكشف هذا الأسبوع في الطوابق العليا من هرم المجتمع الإسرائيلي يأتي يقينًا من الأعلى، لسنا بحاجة إلى خبير صرفٍ صحي كي نعرف أنها سَدّةٌ خطيرة في دورة القيادة، وقد حان الوقت لورشة ترميمٍ عدوانية واستبدال الحكم.
أعمق الشرخ اليوم، لمن لا يزال يبحث عن أدلةٍ على أننا أقرب من أي وقتٍ مضى إلى الانهيار، هو الحملة القاسية التي تُدار ضد عيناف تسِنغاوكِر.
بالذات في أسبوعٍ يُقدِّس فيه أعضاء الائتلاف شخصيةَ “راحيل أمّنا” ويُفضّلونها بنشوةٍ على ذكرى إسحاق رابين، يختارون نصبَ الأم التي تجسّد كل قيمةٍ يهوديةٍ كلاسيكية على المحْرَقة، إنها هجمةٌ سامة لا تتوقف حتى حين يُوارى مخطوفونا القتلى في التراب بعد عاميْن من انتظارٍ مُضْنٍ، وحتى حين تُنشر الشهادات المفزعة للناجين من الأسر، وحتى حين تتكاثر الأخبار عن أعداد المنتحرين في صفوف الناجين من المجزرة وعناصر الأمن.
من يبحث عن تدعيم بعض الأسس هنا قبل أن تأتي الهزّة الأرضية العاتية التالية، فليهرع لإنقاذ المتضرّرين في الساحة المدنية، التعليم والرفاه، والصحة والمواصلات، يجب أن يصعدوا إلى رأس سلّم الأولويات، ليس فقط للحفاظ على قوة المجتمع في مواجهة الحكم، بل خصوصًا لضمان ألّا يُجبَر وكلاءُ السلطة بعد اليوم على الاختيار بين الانطواء والانضمام من جهة، وبين الحرب والمواجهة مع السيّد من جهة أخرى؛ وألّا يُدفَع حرّاسُ البوابة إلى الزوايا الأخلاقية؛ وألّا يدمن المواطنون نظريات المؤامرة الهاذية.