المِغالومانيا. كسلاح دعائي: كيف تشيطن إسرائيل أردوغان لتبرير الإقصاء والتصعيد؟
مركز حضارات للدراسات
المِغالومانيا” في أدبيات الأمن القومي الإسرائيلي
تُوظِّف أدبيات وخطاب الأمن القومي في إسرائيل مصطلح “المِغالومانيا” بوصفه أداة تحليلية–سياسية، لا كتوصيف نفسي علمي، وذلك في سياق نزع العقلانية الاستراتيجية عن خصومها الإقليميين وإخراجهم من دائرة الفاعلين القابلين للاحتواء أو الردع. فالمفهوم، كما يُستعمل في الخطاب الأمني والإعلامي الإسرائيلي، يُحمِّل الخصم دلالات “الهوس الرسالي” و“تضخم الأنا التاريخية”، بما يعني ضمنيًا أن سلوكه لا تحكمه حسابات الكلفة والمنفعة، ولا يخضع لمنطق الردع التقليدي الذي تقوم عليه العقيدة الأمنية الإسرائيلية الكلاسيكية. وبهذا المعنى، لا تُقدَّم “المِغالومانيا” كحالة فردية، بل كإطار إدراكي يُعاد من خلاله تعريف طبيعة التهديد، وتحويله من صراع مصالح قابل للإدارة السياسية إلى خطر وجودي ذي طابع أيديولوجي-هوياتي.
ويُبنى هذا الوصف في الخطاب الإسرائيلي عبر ثلاث طبقات متداخلة: الأولى رمزية، يتم فيها ربط الخصم بسرديات تاريخية أو دينية كبرى (الخلافة، الإمبراطورية، الرسالة الحضارية)، بما ينقله من خانة السياسي البراغماتي إلى خانة “الفاعل الميثولوجي”. أما الطبقة الثانية فهي سلوكية، حيث تُضخَّم تدخلاته الإقليمية أو خطابه التعبوي أو استخدامه للرموز الدينية، وتُقرأ بوصفها دلائل على نزعة توسعية غير منضبطة. وفي الطبقة الثالثة، الاستنتاجية، يُستخلص حكم نهائي مفاده أن هذا الخصم غير قابل للردع أو الثقة، ما يبرر استبعاد مسارات التسوية والاحتواء لصالح سياسات التشدد والعمل الاستباقي. اللافت في هذا السياق أن استخدام المصطلح يتسم بانتقائية واضحة؛ إذ يُمنح لخصوم بعينهم في لحظات صعود نفوذهم، ويُسحب عن فاعلين آخرين حين تقتضي المصلحة السياسية الإسرائيلية توصيفهم بوصفهم “براغماتيين” أو “واقعيين”، الأمر الذي يؤكد الطابع الأداتي للمفهوم.
تؤدي هذه المقاربة إلى وظائف سياسية متعددة: داخليًا، تُسهم في توحيد الرأي العام الإسرائيلي، وتقويض الأصوات الداعية إلى حلول سياسية، وتبرير تصعيد الإنفاق العسكري. وخارجيًا، تُسوِّق إسرائيل نفسها أمام الشركاء الغربيين باعتبارها “فاعلًا عقلانيًا” في محيط “رسالي خطِر”، ما يعزز شرعية سياساتها الصلبة ويُضعف فرص مساءلتها. غير أن الإشكالية التحليلية الأساسية في هذا الاستخدام تكمن في استبدال التحليل البنيوي بتشخيص نوايا ونفسيات القادة، وتحويل الصراع من معادلات قوة ومصالح إلى سرديات أخلاقية-نفسية، وهو ما قد يقود إلى تضخيم التهديد وإغلاق مسارات السياسة، بل وإنتاج “نبوءة ذاتية التحقق” تدفع الخصم فعليًا نحو مزيد من التصلب. وعليه، فإن التعامل الأكاديمي الرصين مع هذه الظاهرة يقتضي تجاوز توصيف “المِغالومانيا” إلى مفاهيم أكثر دقة، مثل توصيف الخصم بوصفه فاعلًا يعتمد سرديات هووية-تاريخية في سياسته الخارجية، أو قيادة تتأثر باعتبارات رسالية في حسابات الردع، دون إسقاط صفة اللاعقلانية المطلقة التي تُستخدم أساسًا كأداة نزع شرعية استراتيجية.
لا يُعبّر توصيف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بـ“المِغالوماني” في الخطاب الإعلامي–الأمني الإسرائيلي عن تحليل استراتيجي جاد، بقدر ما يكشف عن أداة شيطنة سياسية ممنهجة تهدف إلى نزع الشرعية عن أي دور تركي محتمل في معادلات الإقليم، ولا سيما في غزة وشرق المتوسط. فإسرائيل، العاجزة عن مجابهة الوقائع السياسية الجديدة عبر أدوات الدبلوماسية أو التفاهمات المتعددة الأطراف، تلجأ إلى تشخيص مرضي للخصم بدل تحليل سلوكه ضمن منطق المصالح والتوازنات. وبهذا، يجري تحويل أردوغان من رئيس دولة إقليمية فاعلة إلى “قائد مهووس بالعظمة”، بما يسمح بإخراجه مسبقًا من أي إطار تفاوضي مشروع.
تعمد هذه السردية إلى تضخيم الخطاب الرمزي والديني في السياسة التركية، وربطه تلقائيًا بمشاريع “الخلافة” و“التمدد الإمبراطوري”، في تجاهل متعمّد لحقيقة أن أنقرة تتحرك ضمن شبكة معقدة من القيود والتحالفات الدولية. غير أن الهدف ليس الفهم، بل الإدانة المسبقة: إذ يُقدَّم أي حضور تركي في ملفات القدس أو غزة أو القوة الدولية المحتملة بوصفه تهديدًا وجوديًا، لا مبادرة سياسية قابلة للضبط والرقابة. وهكذا، تتحول اللغة إلى أداة إقصاء، ويُستبدل النقاش السياسي العقلاني بخطاب تخويفي يبرر الرفض الإسرائيلي المطلق لأي دور لا يخضع لهيمنتها المباشرة.
الأخطر في هذا الخطاب أنه لا يكتفي بتشويه صورة أردوغان، بل يُعيد تعريف تركيا نفسها كدولة “غير عقلانية”، بما يفتح الباب أمام سياسات تصعيدية واستباقية، ويغلق أي أفق لتسويات إقليمية شاملة. فحين تُصنَّف القيادة التركية على أنها “مِغالومانية”، يصبح الردع عديم الجدوى، والحوار مضيعة للوقت، والتشدد فضيلة أمنية.