المصالحة من جديد
مفهوم وعلى الأغلب صحيح ما كان من موجة إحباط وتشاؤم رافقت إعلان السلطة عودة الأمور مع العدو إلى سابق عهدها. حتى ذهب بعض الكرام إلى حد ( نعي) المصالحة نهائيا، وفي هذا السياق أود تسجيل جملة من الملاحظات كما يأتي:
- المصالحة عند حركة حماس ليست تكتيكا، بل هي قرار استراتيجي ستظل الحركة- في تقديري- تعمل على تحقيقه أداء لواجبها تجاه شعبنا ومشروعه الوطني. وذلك بمعزل عن طبيعة نظرة أي طرف لها. وعليه فلا مكان للندم في قاموس الحركة على الجهود التي بذلت وتبذل في هذا المضمار.
- لم يكن غائبا_ أبدا_ عن قيادة الحركة ما حذر منه وتوقعه كثير من النخب من قراءتهم لسلوك السلطة نحو المصالحة وأنه تكتيكي مرتبط بالانتخابات الأمريكية، وهو التخوف الذي صارحت به الحركةُ فتح فنفته سرا وعلنا. ولم يكن غائبا عن تقدير الحركة وجود تيار قوي داخل السلطة رافض للمصالحة، ولا الضغوط الخارجية المانعة لتحقيقها. وكل هذه العقبات كانت ماثلة أمام قيادة الحركة بالتأكيد، لكن الحركة لم تكن لترى المشروع الوطني ينهار فتظل ساكنة تراوح مكان الترقب، وكان لا بد لها من المبادرة والمحاولة لتجاوز كل تلك العقبات.
- في تقديري، إنه برغم المرارة والألم من استمرار التيار المؤثر في السلطة بنهجه العقيم المراهن على سراب، تضيع في مطحنة وقته الحقوق الوطنية بتغول العدو واستغلاله هذا الترقب المميت نحو مزيد من الاستيطان، وتنفيذ مشاريع الضم بكل أريحية... إنه برغم ذلك، فإني أظن أن الحركة لن تنفض يدها من جهود المصالحة، لكن هذه المرة وفق أسس جديدة.
- فما كانت تقبل به قيادة الحركة من تغاض عن كثير من المطالب الضرورية الممهدة للمصالحة قبل الشروع بها، من رفع للعقوبات وإطلاق للحريات وغير ذلك.. لا يمكن التغاضي عنه بعد الآن، وهو أقل ما يمكن من ضمان لصدق النوايا بعد مسيرة الخيبات السابقة، إذ لم يعد لدى الشعب مزيد من ترف الوقت والترقب لتحمل إخفاقات جديدة.
- ومن يظن أن الحركة سعت للمصالحة من موقف ضعف، وتريد عبر ركوب مركبها الإبحار إلى جزيرة المكاسب الحزبية الضيقة، فهو واهم ومخطئ ولا يعرف الحركة بعد. إن ألم الحركة الوحيد هو على سفينة المشروع الوطني التي يصر بعض ركابها على إغراقها لتبوئهم مكانا يسمح لهم بتوجيه دفتها. وكل سعي الحركة أن توجه البوصلة نحو شاطئ الحرية والخلاص والانعتاق من ربق الاحتلال. وعند غرق السفينة ماذا يفيد التلاوم؟ لذلك لا خيار إلا أن نسعى مجتمعين نحو تصحيح المسار، وتوجيه البوصلة نحو القدس. ألا إن الخاسر الوحيد من إجهاض جهود المصالحة هو فلسطين والقدس والمشروع الوطني وهو ما يمثل خسارة للكل الفلسطيني بسبب خيارات ضيقة الأفق لدى بعض الشركاء للأسف الشديد والمرارة الدامية.
- وأحب هنا أن أكرر دعوة أخي الأستاذ ساري عرابي، حين دعا قيادة الحركتين قبل عدة أيام وهو يرى تباطؤ الانطلاقة الواعدة، فقال: إن كان ثمة عقبات تحول دون إتمامها، فأدعو قيادة الحركتين للحفاظ على الأجواء الدافئة التي أفرزتها الجهود السابقة، وتجنب العودة إلى مربع التراشق الإعلامي، وهي نظرة وطنية وحكيمة بامتياز، وإني إذ أضم صوتي لصوته فأقول مطالبا منابر الحركة الرسمية: متحدثين ومواقع بالحفاظ على التوازن والوسطية، بحيث لا يخرج الخطاب عن نقد السلوك الخاطئ أو القاتل إن شئت، ولا يتجاوزه لتجريح الأشخاص مهما كانت مساحة الألم والمرارة، ومهما كانت طبيعة سلوك الآخر فلا نتخلى عن ضبط التصريحات والمواقف أبدا، حريصين ألا نضيف للتيار الذي أجهض المصالحة مزيدا من المساحة والفرص لتعزيز دوره ومكانه، ويجب ألا نلعب وفق قواعد اللعبة التي يحددها هذا التيار، حيث من المتوقع أن يبدأ في الهجوم وشحن الأجواء وتسخين الموقف، فهذه هي بركة الماء التي تتنفس سمكته فيها فلا نمنحه إياها فننجر إلى مربع ( الردح) مهما كانت الاستفزازات. وحبذا استمرار التواصل مع تيار المصالحة في فتح للعمل على إبقاء الأجواء الدافئة التي أشار إليها الأستاذ ساري.
- وأخيرا، فليس من نافلة القول أن أذكّر: أن هذه القضية هي وعد الله الذي لا يخلف أبدا. وإن اشتداد الظلمة لا يزيدنا قناعة إلا باقتراب الفجر. وكما قال الأستاذ خالد مشعل: "نحن نقاتل تحت لواء قضية مضمونة النتائج"، وإن كان من أمر محزن، فهو أن يختار أخ وصديق وجار أن ينزل من مركب العزة والنصر الواثق والأكيد والقريب إن شاء الله، يختار أن ينزل بانتظار سراب منّاه به شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف سلامِهِ الواهم أمنيةً كاذبةً وغرورا، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ووجد الحسرة والندامة! وكان بالإمكان أن يتعالى على وساوس الزيف فيوفر على شعبه مزيدا من الجهد والثمن والوقت. ولكلٍّ وجهة هو مولّيها. والثقة بالله أولا ثم بهذا الشعب العظيم أنه لن يولّي بوجهِه- مهما تلاطمت الأمواج، وادلهمت الخطوب، وكثرت الجراح- إلا شطرَ قبلةِ القدس التي يحبها الله ويرضاها. وإن الله عز وجل الذي لم يخذل شعبنا يوما هو – سبحانه- ربنا الذي نتوكل عليه ونثق به أن يجعل لشعبنا مخرجا، ويهديه للتي هي أقوم. ومن يدري لعل فوات القافلة الذي له نأسف وعليه نحزن، هو سوق القدر الحكيم لنا للفرقان الذي نحب، وبه نُعَز. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.