لا يمكن لأي عربي صادق الانتماء والهوية إلا أن يشعر بالقلق والغضب على ما يُحاك ضد الشعب الليبي ودولته وضد جمهورية مصر العربية من مؤامرات وتحديات غير مسبوقة ومن أطراف متعددة في نفس الوقت. ما يجري في ليبيا من تدخلات خارجية متعددة الأطراف يجعل الوضع في ليبيا أكثر خطورة على المستوى الجيوسياسي للمنطقة العربية من كل حالات الحرب الأهلية التي صاحبت ما يسمى الربيع العربي، بل يمكن القول بأن ما يجري في ليبيا سيكشف مستور كل ما جرى في المنطقة منذ عام 2011 .
تزامن مشروع أثيوبيا لبناء وملئ سد النهضة مع التدخل التركي السافر في ليبيا وتزايد أعداد ونشاط المرتزقة والجماعات الإرهابية المتطرفة على الحدود المصرية الليبية، كلها مصادر تهديد للأمن القومي المصري وبالتالي تهديد استراتيجي للأمة العربية ووجودها ومستقبلها لأن مصر هي العمود الفقري للأمة العربية والمشروع القومي العربي أو ما تبقى منه.
قد يقول قائل عن أية أمة عربية ومشروع قومي عربي تتحدث بعد كل هذا الخراب والدمار الذي سببه (ربيع العرب) بل وما قبله؟ وعن أي مصر تتحدث فمصر التي تصفها كانت في عهد جمال عبد الناصر عندما كانت عدواً لإسرائيل وواشنطن وعندما كانت تساند حركات التحرر العربية والإفريقية، ولكنها بعد عبد الناصر وخصوصاً الآن حليف استراتيجي لواشنطن وصديق لإسرائيل ومواقفها سلبية تجاه القضايا العربية الخ، فكيف نقف بجانبها في مواجهة اثيوبيا التي تمارس حقها بالاستفادة من مياه نهر يمر بأراضيها وفي مواجهة تركيا التي جاء تدخلها في ليبيا بدعوة من حكومة شرعية وهي حكومة السراج ؟!!.
لا يمكن الإجابة عن كل هذه التساؤلات أو مقاربة ما يجري على حدود مصر الغربية والشرقية إلا من خلال سياق ما يسمى الربيع العربي لأن ما يجري امتداد له ولأهدافه التي وضعتها واشنطن من خلال مشاريعها المتعددة منذ الحمسينيات إلى مشروعي الشرق الأوسط الكبير والشرق الأوسط الجديد في عهد أوباما. جوهر هذين المشروعين كسابقاتها ليس دمقرطة العالم العربي كما تزعم واشنطن التي دائما تقف وتساند الأنظمة الرجعية والدكتاتورية والفاسدة سواء في العالم العربي أو خارجه، بل الهيمنة على المنطقة وثرواتها مباشرة أو من خلال وكلائها، ونشر (الفوضى الخلاقة) لتفكيك الدول الوطنية وقطع الطريق على المشروع الوحدوي العربي وتميكن الإسلام السياسي الذي هو صنيعة الغرب من الوصول للسلطة، لأنه في هذه الحالة ستعم الفوضى بين المتدينين والعلمانيين وبين المذاهب والطوائف والقوميات، وحتى في حالة وصول الإسلاميين للسلطة فلن يؤسسوا دولة مدنية حضارية بل دول خلافة على شاكلة دولة خلافة الملا عمر وطالبان في أفغانستان أو دولة خلافة البغدادي في الرقة أو دولة الخلافة في سيناء.
نجحت هذه المخططات في تدمير العراق وتدمير سوريا وليبيا وفي إحداث انقسام فلسطيني ولكنها فشلت في مصر وتونس والجزائر، ونلاحظ أنه كان لتركيا دور رئيس في إحداث هذه الفوضى وخصوصا في سوريا والعراق والآن في ليبيا، دون تجاهل دور أنظمة خليجية في المخطط والمؤامرة. وعلينا دائما التذكر أن الغرب وعلى رأسه أمريكا هو الذي دمر العراق واحتله وهو الذي اغتال القذافي بقصف جوي وهو الذي يمول غالبية الجماعات الإرهابية كما أنه اعطى لتركيا الضوء الأخضر للتدخل في سوريا وليبيا، وهذا ما يُسقط وينفي وصف الربيع العربي عما يجري.
بعد فشل المؤامرة على مصر واستعادة مصر لهويتها الوطنية بعد مظاهرات 30 يونيو 2013 تم تحريض أثيوبيا للتسريع في بناء وملئ سد النهضة دون توافق مع السودان ومصر دولتي المصب ولهم حقوق بمياه النيل تنص عليها مواثيق وبروتوكولات دولية، وتم أيضا تحريض حكومة السراج للاستعانة بتركيا لخلط الأوراق في ليبيا ومحاصرة مصر وتهديد أمنها القومي .
الوقوف إلى جانب مصر ليس دعماً وتأييداً لنظام الحكم فيها أو شهادة تزكية لسياساتها سواء الداخلية أو في علاقاتها مع إسرائيل وأمريكا، بل هو موقف قومي استراتيجي، فالخلافات السياسية العربية مع مصر يجب أن تكون في السياق الوطني والقومي ومن خلال استمرار الحوار كما أن الأنظمة والحكام يزولون وتبقى الدولة والشعب، وهذا يختلف عندما يتعلق الأمر بتهديد الأمن القومي المصري من جهات خارجية لأن الاستهداف في هذه الحالة ليس موجها للنظام أو للرئيس السيسي بل للدولة المصرية ودورها الاستراتيجي باعتبارها العمود الفقري للأمة العربية ولأي جهد مستقبلي لإحياء المشروع القومي العربي كحالة مناقضة للمشروع الإسلاموي ولمشاريع دول الجوار التوسعية التي لا تبحث إلا عن مصالحها القومية حتى وإن أخفت أهدافها الحقيقية بشعارات إسلامية أو باتفاقات رسمية.
كان من أغرب ما سمعته من صديق قريب من جماعة الإخوان في سياق دفاعه عن تركيا أن هذه الأخيرة أصبحت دولة قوية في المنطقة ومن حقها أن يكون لها مشروعها القومي ومصالحها في المنطقة، ومتسائلا لماذا ننتقد الموقف والسياسة التركية بينما دول
الغرب وروسيا بالإضافة لإسرائيل تستبيح المنطقة احتلالاً وعدواناً ومن خلال القواعد العسكرية؟! صحيح أن تركيا دولة قوية ومتقدمة اقتصادياً ولكن هذا لا يمنحها الحق بأن تتحول لدولة إمبريالية في المنطقة أو أن تحاول استعادة أمجاد الخلافة العثمانية، كما ليس من حقها التوسع وتعزيز مصالحها وخصوصا في مجال الغاز والنفط على حساب الشعوب العربية وتدمير الدول العربية.
من الواضح أن طبول الحرب تدق بقوة ولكن نأمل أن لا تصل الأمور إلى حرب حقيقية يتدخل فيها الجيش المصري في ليبيا حتى وإن كان تدخله مشروعا لحماية الشعب الليبي وحماية أمنه القومي ولأنه جاء بطلب من ممثلي الشعب الليبي، لأن حروب المنطقة ليست نزهة أو حروبا لأيام أو أسابيع بل ستعمل واشنطن والغرب عموما وإسرائيل على إطالة أمد الحرب في ليبيا كما هو الحال في سوريا والعراق واليمن، وفي هذه الحالة سيتم استنزاف مصر من عدة جبهات، فبالإضافة إلى ليبيا، هناك الخطر القادم من أثيوبيا وتعزيز هذه الأخيرة لعلاقاتها مع إسرائيل وتركيا، الخطر القادم من سيناء وخصوصاً أن تركيا قد توعز لجماعات إسلاموية متطرفة بتكثيف نشاطها التخريبي في سيناء وداخل مصر، وكما أرسلت مرتزقة إلى سوريا أو سهلت مرورهم إليها وبعدها إلى ليبيا قد تسعى لإرسالهم لسيناء، كل ذلك يضع مصر في وضعية صعبة وقد تكون وحيدة في الميدان حيث الدول العربية الأخرى وخصوصا الخليجية إما معادية لمصر كقطر أو متورطة في حروب أخرى تستنزفها ماليا وعسكريا كالسعودية والإمارات مما يجعل دعمها لمصر محدوداً.
مع ثقتنا بالجيش المصري وتفهمنا لشرعية تدخله في ليبيا إلا أن قلقاً ينتابنا من التورط في حرب قد تطول، وخشية من جهة الموقفين الأمريكي والإسرائيلي فصمتهما مريب، وحتى التصريحات الامريكية المتحفظة على التدخل التركي في ليبيا دون أية مبادرة من طرفها أو من طرف حلف الأطلسي لوقف هذا التدخل أو تهديد بمنعه يبدو وكأنه تشجيع واستدراج لمصر للتورط في حرب في ليبيا حتى يتم استنزاف مصر وربما نقل حالة الفوضى إلى داخلها.
ويبقى الرهان على الشعب الليبي نفسه وإن لم يتدخل عقلاء ليبيا والقوى الحية فيها وهم كُثر فإن مصير ليبيا سيكون أسوء من مصير سوريا والعراق واليمن.
ملاحظة: هذا المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة وجهة نظر مركز حضارات