بقلم/ أيمن الشرباتي
2/5/2023
التاريخ يبحث: جوجل.. جوجل! أين تقع مقابر الأحياء؟
جوجل يتحرى: ما الذي ذكّرك بهم بعد كلّ هذه السنين العجاف؟ هل هناك مومياء تنوي سرقتها لتقايضها بشهرة كاذبة مع أحد المتاحف؟ أم تريد أن تحّل رموزا هيروغليفية منقوشة على جدران قبورها.. لتحتسي خمر المجد في كؤوس رسوماتها الشاحبة.. يا حفار القبور؟! التاريخ يوبّخ: يا زراع النحس تأدّب وأنت تخاطب إلهك الذي خلقك من أرقام وحروف، ونفخ فيك من روحه! فما أنت سوى شبح رسمته بأصابع خيالي فوق جدار افتراضي أحرّكه كما أشاء وأمحوه كما أشاء.
جوجل يخمن: أنت لست إلهي ولا أنا عبدك.. أنت كاهن حقود جحود.. نصبك الزمان خازنا لأسراره، ولم يعد مكان لإصلاح ما افسدته.. لأنّ الاحلام التي غرستها النجوم والغيوم في دربه قد شغفته حبّا، فهام على وجهه يخطب ودّها ونسي ماضيه، وترك لك ماضيه تعبث به كما تشاء.
التاريخ ينفي: يا ببغاء العولمة أنت تهتف بما لا تعرف، أنا الإنسان والإنسان أنا الأرض أمي والزمان أبي، اشيد معابد الخلود فوق مقامات أمي وأضرحة أبي، وأرتل صلاة الحنين على روح ذكرياتهم الطيبة لأن النسيان صدى الموت، والذاكرة نبض الحياة، فأنا يا أحمق ابنهم البار وثمرة حبهما.
جوجل: يأتيك الأطلال تتفانى في بناء المعابد فوق مقامات الشهرة وأضرحة المجد، وتتوانى عن تشييدها فوق مصانع الحقيقة ومذابح العدالة، وتهذي بالأكاذيب وتتمتم بالأباطيل، وتدّعي بأنك تصلي فتأسر الألباب وتسبي العقول بأساطيرك، دعك من التشبّث ببر الوالدين وأسكتني القول، لما تبحث في هذا الليل البهيم عن مقابر الأحياء؟
التاريخ يهاجم: نظمت قصيدة أسميتها (ميلاد)، أودّ قراءتها على أبناء الأسرى.
جوجل يشترط: اقرأها علي.. وإن نالت إعجابي فسوف أحملك إلى هناك رغم أنّك لا تحتمل، التاريخ يسخر: وتتذوّق الشعر أيّها الروبوت العنيد؟
جوجل يرد الصاع صاعين: بقدر تذوقك لخمر مجدك الكاذب في جماجم ضحاياك أيّها السكّير العربيد.
التاريخ ينحني أمام العاصفة: سوف أترفّع عن هذه الصغائر، فلعلّ الشعر يصلح ما أفسدته أيّها المشاكس.. إذا زلزلت السجون زلزالها وأخرجت النطف أطفالها وطال التاريخ ما لها عند التبادل تحدث أخبارها بأنّ ربّك أوحى لها.
جوجل يبسط ويقبض: لقد طرأ تحسن ملحوظ على أدائك. و"عرضك" أصبحت ممتازة بعد طول ترديدك لروايتك المشروخة. لكن مع الأسف يبقى الكذب صدى لصوتك والوهم ظنًا لقامتك... ومدخلاتك دوما أصدق من مخرجاتك.
التاريخ يجنح للسلم: جوجل.. جوجل أرجوك! الوقت يداهمني، وعليّ الوصول قبل بزوغ الفجر لأنّ شعاع الفجر يميط لسان السنين عن وجهي، وأنا لا أحبّ السفور والفجور. لأنهما يخدشان حيائي.
جوجل يتسامح: حسنا.. حسنا! إذا لم تخنّي العجوز الشمطاء، ذاكرتي، مع عشيقها الصعلوك؛ النسيان، فأنّ مقابر الأحياء تقع قبل "بيت هوفن" وإن مقابر الاحياء تقع: قبل "بيت هوفن" بثلاث سيمفونيات، وبعد بيت الشعر الذي قتل المتنبّي بقصيدتين، وبعد بيت النمل الذي خاف ان يحطمّه سليمان وجنوده بآيتين، وتحت بيت العنكبوت الذي أنتجه الانقسام بمنزلين ها أنت قد وصلت.
التاريخ يترجل من بوسطة الجحيم التي أقلته إلى هناك، ينظر حوله بعيون الخجل، فيرى مقبرة "نفحة" منتصبة على يساره تقابلها مقبرة "رامون" وحوله قبور ثلاثة، على شواهدها منقوش أسماء شهدائها؛ علي الجعفري وراسم حلاوة وسعيد مراغة رحمهم الله. نقطة (مش فاهمها هاي- سعيد) قالوا الانتقام تستعر في صدر التاريخ، وتشتعل حرب العقائد بين الخالق والمخلوق وبين الصانع والمصنوع.
التاريخ في زهوّ وغرور: يا جوجل الرجيم حذاري أن تأخذك العزة بعضلاتك الكونية.. فيمتد ذراعك إلى شجرة الإرادة لتجني تفاحة الحرية منها، حينها سأطردك من جنتي، فتضلّ وتشقى وأنت تبحث عن حوائك في صحاري النسيان وفي ضربات الصمت، إن عصيتني يا جوجل الرجيم فاقطع أسلاك مشاعرك واخلع أزرار افكارك أيّها الدنيا الرقمية، (يضحك التاريخ ملء أعماقه وهو يلج عتبة المقابر.)
يهزم جوجل غضبه ويتجرّع مرارة الإهانة، ويبقى متسربلا في سربال صمته وهو ينتظر الفرصة السانحة ليرد اعتباره.
يستيقظ الأسرى على وقع خطى تاريخهم الذي اختلط بسطى (مش فاهمها) ضحكته، والأمل يحدوهم بأن يكون قادما لتحريرهم. يستقبلونه كأن على رؤوسهم الطير يصيخون سمعهم ويحدّقون بأبصارهم، ولسان حالهم يسأل: يا للهول.. تاريخنا يبعث من مرقده!؟
التاريخ يبرّر: يا أبنائي الأسرى كنت قد أسدلت ستائر النسيان عليكم حتى طرق مسامعي صوت (ميلاد وليد الدقة)، حتى طرق مسامعي صوت "ميلاد" وليد دقة عند السحور في رمضان، وهي تدعو الله أن يشفي أباها من مرضه ويحرّره من أسره.. فتذكرتكم وخرجت عن صمتي بقصيدة نظمتها، مدادها دموع ميلادها.
الأسرى يغضبون: جئتنا من غياهب الزمان الى غياهب المكان لتفسر لنا البراءة بالبراءة، إنّ "ميلاد" هي رسولتنا الى الحريّة، كما هي سفيرتنا إلى السماء، وأنّها تذكر الحجر بالمطر وتخرج "أبو الهول" عن صمته.. فكيف لا تذكرك بنا ولا تخرجك عن صمتك؟! كنا نحسبك قادما لتبشرّنا بقصيدة نظمتها.. مدادها دموع ميلادها، كنّا نحسبك قادم لتبشرنا بحريتنا وحرية "أبي ميلاد"، وإذ بك أصبحت محايدا كالصليب الأحمر، فعساك نسيت أم تناسيت بإن دماء شهدائنا تسري في عروقك.. ألم ترشدك قبورهم إلينا؟
التاريخ يلتمس الأعذار: أيها القاطنون وراء الشمس! يا ذرة الغد ويا تاج الأمس! يا فلذة كبدي أرجوكم لا تحمّلوني فوق طاقتي! فما أنا سوا مرآة علقتها الذاكرة الماكرة في عربة الأحداث، ليرى الانسان ماضيه ماثلا خلفه كلّما نظر فيها، أنا أعترف أمام الله وأمامكم وأنا في كامل قواي المادية والمعنوية، بأنّني كنت طاووسًا مختالا محتالا قبل لقائي بميلاد، وعند لقائي بها سحرتني إلى فراشة تحوم حولها لتمتص رحيق البراءة من براعم طفولتها.
الأسرى يتذمّرون: تمخّض التاريخ فولد حججا واهية.. صمتّ دهرا ونطقت كفرا أيّها الدجال.. سنحطّم غرورك ونقتلع شرورك وندعك تحتضر على سرير النسيان، وننظر الى مستقبلنا بعيون ميلاد وليد دقة.
جوجل شامتا: القاسي يُعلم الداني بأنّ الأسرى أداروا ظهر المجنّ لتاريخهم ونسوه كما نسيهم، وها هم يتحرّون هلال حريّتهم بعيون "ميلاد" وليد دقة.
(تغشى جوجل نوبة ضحك هستيري قبل) أن يردف بصوت منتصر: طاووس يعتقد بأنّه إلها تسحره طفلة بريئة إلى فراشة، وتجعله يطوف حولها كأنّها زهرة الخلود، لله درك يا "ميلاد" وليد دقة يا مؤدبة التاريخ.