حركات التمرد والصدوع في الكيان الصهيوني بين وادي الصليب إلى ثورة الاحتجاج

إسلام حامد

باحث وأسير فلسطيني

الأسير الكاتب/ إسلام حامد

المقدمة:

لفهم أي مجتمع وما يحويه من مركبات اجتماعية، سياسية أو هويَاتية؛ يأتي بعد تحليل وتفكيك بنيته وقاعدته الاجتماعية المشكّل منها، وتتم هذه القراءات ضمن إسقاطات نظرية متعددة تؤدي إلى إحكام وتوقعات بحسب عديد المدارس الطبقية، الاقتصادية، الدينية وغيرها، التي تقدم المجتمع كإثنيات، عرقيات، طبقات أو قطاعات، محددة المتغيرات بينها والتمايزات العرقية أو الثقافية ذات التأثير الأساسي في جغرافيا الهوية والاختلاف الناتج عن ذلك.

ومن الملاحظ أن في كل المجتمعات وجود تمايز طبقي، المحرّض على سياقات التدافع والمواجهة وأنواع الصراع الطبقي المعروفة في كثير من الأحيان.

في حالة الكيان الصهيوني الأمر أكثر تعقيدًا، فهو لا يُعرّف كسائر المجتمعات المكونة ضمن ظروفها الموضوعية، بل هو أقرب لأن يكون مستجمعًا بشريًا يحوي على عشرات العرقيات واللغات وتراث متباين ومتنوع، وأنماط سلوكية مختلفة، رُكّب من خلال أدوات وقواعد استعمارية تصنيفية، وفرض للغة جديدة وهجينة "اللغة العبرية"1، وخلطٍ فريد بين الدين والقومية؛ ليتشكل المستجمع الصهيوني بتراتبية "ناظم المستعمرة"2، الفوقية الطبقية، وهنا: الأشكناز –اليهود الشرقيون– ثم الفلسطينيون.

ناتجًا عن ذلك مجموعة من الصدوع بين مركبات ناظم المستعمرة، أصبحت أساسًا في قراءة المستجمع الصهيوني، ومن أبرزها:

• الصدع اليهودي الاستعماري – الفلسطيني، وعند البعض لا يتعبر صدعًا بل هو صراع.

• الديني – العلماني.

• الأشكنازي – الشرقي.

• القومي الديني – المركز ووسط ليبرالي.

• والصدع الإثني القِطاعي (روس، إثيوبيين، قوقاز..).

ويعرف الصدع بأنه: التناقض بين شيئين، ومنه الانقسامات والتشققات داخل الجسم/ الكيان الواحد.

ولتجاوز هذه الصدوع حاول المشروع الصهيوني منذ أن حطت رحاله على الأرض الفلسطينية أن يوجد هويته اليهودية الجمعية، مستجلبًا التاريخ وموقظًا النصوص التوراتية القديمة؛ لتثبت الروح في هذه الهوية الوليدة، إلا أنه ولفرط عنصريته خلق بذور الانشقاق في داخله بتبنيه النموذج الأشكنازي ذات الخصائص الفردانية، والانعكاس المركزاني الأوروبي، في ثوبٍ استشراقي صهيوني جديد لتتصارع داخل الكيان الصهيوني التشوهات الاجتماعية من إثنيات وقوميات عدة ضمن الصدوع الآنفة، والتي كان من أشهرها الصدع الأشكنازي – الشرقي ببعده الهوياتي، الذي ما زالت صوره قائمة في كثير من مناحي الحياة.

مؤخرًا ومع ذوبان العامل الهوياتي (أداة التمايز المجتمعي) داخل الكيان الصهيوني، لم يعد تحدي الهيمنة بمفهوم جرامشي الذي استخدمته المجموعة الأشكنازية كالفعل والخطاب السلوكي المهيمن عبر المؤسسات الرسمية، الذي اشتهر (بفرن الصهر) أداة لإلغاء لثقافة الشرقيين وموروثهم، واستبدالها بعملية إحياء للهوية الأشكنازية الدارجة والمسيطرة على السياق الاجتماعي، بل تحول الصراع من الصدع الاشكنازي – الشرقي إلى الصدع الديني القومي اليميني – والعلماني الليبرالي؛ ليظهر بأقوى صورة في الاحتجاجات التي أصبحت حراكًا اجتماعيًا سياسيًا تقوم به الطبقة الوسطى في الكيان، وتحديدًا سكان منطقة جوش دان/ تل أبيب الكبرى ذات الطابع الليبرالي، وقطاعات واسعة من الحركات الشبابية، وصولًا إلى عناصر الوحدات القتالية والأمنية في الجيش الصهيوني، ضد الائتلاف الحكومي اليميني المتطرف الساعي لإجراء تبديلات جوهرية  في بنية القضاء وتحديدًا المحكمة العليا وقوانين متطرفة تؤدي إلى تحويل الكيان إلى مؤسسة دينية تحكم عموم المجتمع الصهيوني بمركباته المتباينة بشدة مع التكتّل الإئتلافي الحاكم.

وفي خضم هذه التباينات والانزياح المجتمعي نحو طرفي المعادلة السياسية في الكيان الصهيوني، نستذكر ما قدمه "رام برومان، رئيس المنتدى الليبرالي الصهيوني"3 اقتراحه إنشاء دولة تل أبيبية تمثل الفكر الصهيوني العلماني الذي أنتجه هرتزل مؤسس الحركة الصهيوني، أمام المناطق الدينية القائمة في البلاد، وهي أشبه بالجيتو الجديد داخل الكيان، كمدينة إلعاد أو الأحياء الدينية في القدس المحتلة كحي (مئة شعاريم-أي مئة باب) وغيرها.

أفكار كهذه تدلل على التحولات المهمة في السياقات الاجتماعية المعروفة منذ سنوات طويلة في الكيان الصهيوني التي كانت تشير إلى الصدع الاثني الهوياتي، وتحولها إلى صراع فكري أيديولوجي ليبرالي أمام ظلامية دينية تعيش في نصوص العهد القديم ومؤلفات رديفة أخرى.

لتقدم هذه الورقة المختصرة قراءة مقارنة لأبرز الحركات الاجتماعية والسياسية منذ عام 1949، وأسبابها ومطالبها، وصولًا إلى ثورة الاحتجاج القائمة في يومنا هذا ضد التعديلات القضائية وتشريعات أخرى، ومحاولة تغيير شكل الكيان الصهيوني.

• اليهود الشرقيون، التمرد من أجل المساواة:

أقيم الكيان الصهيوني بمواصفات المجموعة الأشكنازية الأكبر وصاحبة المشروع الصهيوني، وعليهم الاعتماد لا على سواهم، ولهم الهيمنة على المجموع اليهودي، مشكلين بذلك النظام السياسي وأدواته من أحزاب ومؤسسات وجيش...، بما يتوافق مع العقل الأوروبي الحداثي والمركزاني التصنيفي.

ولما كان الكيان الوليد جسمًا شاذًا بين المحيط العربي المعادي، قرر المستعمرون بعد نكبة 1948، استجلاب اليهود الشرقيين، كأرقام لتعويض النقص البشري من يهود أوروبا، وكأياد عاملة في الدولة الفتية، وجنود في الجيش، والأهم من أجل موازنة العامل الديموغرافي مع الفلسطينيين العرب.

يعد هذا الاستجلاب بوسائل مختلفة، بدأت عملية استيعابهم ضمن حدود المشروع الصهيوني بأبعاده الأشكنازية، وإعادة تنميطهم وقولبتهم بما يتوافق مع المشروع.

وأول أدوات الاستيعاب كانت فيما عرف بـ المعيروت؛ وهي محطة تجميع وتأهيل الشرقيين تمتد لسنوات قبل نقلهم إلى أماكن سكناهم.

ودخل المعيروت تلك مجمل اليهود الشرقيين القادمين من الدول العربية والإسلامية حتى بداية خمسينات القرن الماضي.

لاحقًا وبعد تلقي اللغة العبرية والسلوك اليهودي الجديد ضمن عملية تنميط ممنهجة، (التنميط، ضبط وسيطرة وإنتاج طاعة)، يوزعون إلى مدن التطوير؛ التي خططها الوزير شارون في حكومة بن جوريون، كقرى حدودية، تحولت لاحقًا إلى مدن حدودية لها مهمة حماية الكيان الصهيوني كحائط دفاع متقدم، مثل مدينة كريات شمونة، المستعمرة في الشمال الفلسطيني المحتل.

وكما قدم سامي شتريت في كتاب النضال الشرقي؛ أول احتكاك كان بين اليهود الشرقيين والكيان، في شارع اللمبي، الذين وصل تعدادهم لقرابة 300 مهاجر شرقي عام 1949، شعارهم الخبز والعمل مقتحمين مكاتب الوكالة اليهودية ومبنى الكنيست، وعلى أثر ذلك قام الكيان بحجز سكان المعيروت ومنعهم من الخروج، لكن ما كانت التجربة تسمح بتحول الاحتكاك إلى مسار احتجاجي كبير لعدة عوامل موضوعية، وعدم وجود الوعي الكافي عند الشرقيين حول الحقوق والواجبات وكيفية المطالبة بها وتحقيقها.

إلا أنه في تموز 1959، اختلف الأمر، فبعد سنوات من التمييز العنصري، والاحتكاك الهوياتي، من إلغاء ومحو لما يمثله اليهودي الشرقي، كان تمرد وادي الصليب ضد الممارسات التميزية الظالمة لحكومة الكيان اتجاه الشرقيين.

ووداي الصليب، في الأصل هو حي عربي فلسطيني في حيفا، هُجّر أصحابه الفلسطينيين وأُسكِنَ فيه يهود مغاربة، وكانوا قرابة 15 ألف نسمة، بجانبه حي هدار الاشكنازي، الذي شكل المقاومات الجوهرية والتمايز العنصري بين أن تكون شرقيًا أو اشكنازيًا.

بالنسبة للشرقيين تمرد وادي الصليب يعتبر حدثًا مؤسسًا لنضالهم ضد السلطة الحاكمة، المطلوب بالمساواة في الحقوق والواجبات، كما أنه شكل الذاكرة الاجتماعية الأبرز في نضال الشرقيين.

واستمر حراك الشرقيين في مسارات عدة منها عام 1962، وإنشاء الجبهة القومية للمساواة، الحركة التي حاربها جهاز الشاباك الصهيوني.

ليتبع ذلك الحراك الراديكالي للشرقيين المعروف بالفهود السود عام 1971، نتيجة لتعمق العناوين والمفاهيم التصنيفية التي أطلقت ومورست بحق الشرقيين، كالبسطاء – طائفيين – "إسرائيل" الثانية – أصحاب الحاجة للرعاية الاجتماعية..، مع ازدياد التمييز الاقتصادي والعلمي في المدارس، وعدم التقدم في السلم الوظيفي/ التعليمي...، وهو أقوى وأهم حراك في تاريخ الشرقيين، لتبنيه أيديولوجيا شيوعية ثورية، ووعي متقدم لكل ما يحيط بالقضية الشرقية.

وانطلق الحراك من حي الصدارة، نقطة البداية لثورة الفهود السود، وهو الحي الحدودي على خط عام 1967 في القدس.

وربط اسم الحراك بالفهود السود، الحركة الاحتجاجية الأمريكية العاملة ضد التمييز القائم بين العرق الأسود والأبيض؛ ليستفز ذلك الأشكناز بقوة، كون الاسم له دلالات التحرر من عنصرية الاشكناز.

وكلمة الفصل كانت المساواة، الطلب الذي لا يمكن التنازل عنه.

ويتبع حركة الفهود السود حركات عدة مثل حركة الخيام، والقوس الديموغرافي ومن ثم شاس، ذات البعد الديني الحريدي.

وخلاصة النضال الشرقي:

1/ التركيز على وضع الشرقيين في المعيروت ومدن التطوير، واعتبارها فعل عنصري.

2/ نشوء حركات الاحتجاج الاجتماعي، ضد الفقر ومشكلة التعليم والسكن وغيرها.

3/ إنشاء الأحزاب السياسية، تمرد صناديق الاقتراع.

الحصيلة: اعتراف الدولة بحقوق الشرقيين، وإعطائهم الصفة الطبيعية والاعتراف إلى حد كبير بالإرث الثقافي الشرقي، وهويتهم الجامعة.

• تحولات اجتماعية، وحركات الاحتجاج بعد الألفية.

يقول ابراهام بورغ: أن السؤال ليس من هو اليهودي؟ بل ما هو اليهودي؟ فاليهودي تم تعريفه بحسب قانون القومية 2018 ومن قبل قانون العودة عند إنشاء الكيان، إلا أن ذلك لم يلبي جميع الفراغات التي تشكلت من تمايز هوياتي، وتعارض ثقافي بين مركبات المستجمع الصهيوني الوليد.

فالعقل الأشكنازي الحاكم والمسيطر، شكّل عن غير قصد هوية الشرقيين من جديد وأعاد أحياءها؛ لتكون المنافس الأقوى للهيمنة الأشكنازية، مما حرك الصراع ضمن حالات القائمة بين تناقضات مركبات الكيان الاجتماعية.

الأمر اختلف بعد الألفية فتحولت المواجهة بين الصدع الأشكنازي – الشرقي إلى الداخل الاشكنازي، ضمن شكله الطبقي بحسب تعريف ماركس، وآخر طلائقي بحسب تعريف لينين، مع صورة كلية للحراكات الجديدة مفادها الوعي بالتحديات وكيفية مواجهتها من خلال أيديولوجيا محددة كما قدمها جرامشي في تشكيل الحركات الاجتماعية.

فتحولت حركة الاحتجاج من الحالة الإثنية إلى حركة الطبقة الوسطى في السياق الأشكنازي ويستخدم فيها مفهوم الشعب كصاحب المطالب وليس الإثنية كما النضال الشرقي.

ففي عام 2011 ظهرت حركة احتجاج اجتماعية في جادة روتشليد/ تل أبيب، على إثر تواصل إشكاليات الرهن العقاري التي برزت عام 2008، قادها تجمعات شبابية تطالب بحلول لازمه السكن وارتاع نسبة الفقرة، وعدم تحمل العبء للجميع بين كل مواطني الكيان، فالحريديم والمستوطنين يتلقون الدعم والرفاه دون أن قدموا شيئًا للدولة.

لتظهر مفاهيم جديدة تدعوا للانقلاب الطبقي داخل مكونات المجتمع الصهيوني والمطالبة بتغيير سياسات التعامل مع الفقر، وإيجاد حلول له، بالإضافة للسكن والتعليم، إلا أن نتيجتها كان الفشل في تقديم بديل راديكالي للسياسات النيوليبرالية، لينتهي الحراك بعدما قدمت لجنة مانويل تراختبزك خطابًا لغويًا دون أن يكون له رصيد من التطبيق..

لقراءة المقال كاملا اضغط هنا 

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023