بين منطق الدولة ومنطق الثورة

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

أولاً: بين يدي الموضوع: 

يجادل الكثيرون في منشأ سلوك الدولة، وركائز أفعال وإجراءات الثورة، حيث يختلف المتحاورون في هذا المجال، اختلاف القدماء في قصة البيضة والدجاجة، وأيهما سبق الآخر. وحيث أن هذا النقاش مرتبط بالسلوك البشري، ومن سنخية العلوم الاجتماعية المختلف فيها، فإن كل صاحب وجهة نظر يجتهد في إثبات وجهة نظره، وسوق ما يؤيد رأيه، إنطلاقاً من زاوية الرؤية التي يقارب فيها المسألة محل البحث. إن هذه الورقة لن تعالج المسألة بحثاً عن تقديم أحدهما ــ الدولة والثورة ــ على الآخر، وإنما ستقارب الموضوع إنطلاقاً من سوق بعض الأمور التي ينصبغ بها منطق كل من هذين المفهومين، عنينا مفهوم الدولة، ومفهوم الثورة. كما أننا لن نفضل أحدهما على الآخر، كون التفضيل مرتبط ارتباطاً عضوياً بمن يختار. ففي الحين الذي يصلح فيه منطق الدولة لطرف، قد لا يصلح البتة لطرف آخر، وفي هذا تفصيل قد يجد عليه القارئ الكريم إجابةً في ثنايا هذه الورقة. 

ثانياً: منطق الدولة: 

تُعّرف الدول على أنها إقليم(أرض)، يعيش فيه مجموعة من البشر(ناس)، تمارس عليها سيادة، وفقاً لمنظومة قيم وأعراف وقوانين، يقبلها ويتعارف عليها سكان هذه البقعة الجغرافية، فتنتظم شؤون حياتهم، وتدار علاقاتهم الداخلية والخارجية، بحثاً عن مصلحة رئيسية، يمكن اختصارها بحفظ أمن وسيادة ورفاهية هذه الأرض، وما فيها ومن فيها. وتحقيقاً لهذه الغاية الكلية، فإن الدول تكون محكومة بمنطق من أهم صفاته ما يأتي:  

  1. البحث عن تثبيت السيادة:

لقد تغير مفهوم السيادة، وما زال في حالة من عدم الثبات، إنطلاقاً من حالة تداخل وتشابك المصالح بين مختلف الوحدات السياسية، فلا تكاد تجد دولة ـــ مهما عظم شأنهاـــ  مستغنية عن بناء علاقات مع دول خارجة، أو منظمات داخلية، بحيث أصبح مفهوم السيادة والذي يعرّف بأنه: "الحق الكامل للهيئة الحاكمة وسلطتها على نفسها وأرضها وشعبها، دون أي تدخل من جهات أو هيئات خارجية"، لا تكاد تجد له مصاديق، في زمن العولمة الاقتصادية، و(الانسياح) المعلوماتي في زمن وسائل التواصل الاجتماعي. 

  1. البحث عن الاستقرار والهدوء:

من أهم واجبات الدول والحكومات؛ شخوصاً وهياكل عمل؛ تأمين أمن رعاياهم، وساكني أقاليم دولتهم، وضمان رفاههم، وتطوير وتنمية مستوى حياتهم اليومية، وتأمين كل ما يساعد في تحقيق هذين الأمرين ــ الأمن والرفاهية ـــ، ولازمة هذا الأمر؛ الاستقرار، والهدوء، وصرف الجهد في البحث عما يعزز الاستقرار، ويعمم الهدوء. 

  1. الدفاع مقدم على الهجوم: 

وحيث أن الدول، وانطلاقاً من مبدأ السيادة، وما يتضمنه هذا الأصل من مقتضيات، على رأسها عدم السماح لأحد، أو جهة بالتدخل في شؤنها الداخلية، لذلك فمبدأ الدفاع مقدم على الجهوم في عقائد الدول القتالية؛ ما لم يقتضي الموقف تقديم الهجوم على الدفاع. وحتى عندما تبادر الدول بالهجوم على أعدائها، فإنها تسوق من المبررات والحجج ما يسوغ فعلها، ويبرر إجرائها. 

  1. احتكار القوة: 

يعد احتكار القوة؛ امتلاكاً وتشغيلاً، من أهم صفات الدول، وما يحكم منطقها، ففي سبيل الحافظ على أمن مجتمعها، ومنعاً من تجاوز بعض مكوناتها على بعض آخر؛ يفوض عقدها الاجتماعي السلطة التنفيذية حق احتكار القوة واستخدامها. لذلك تسن الدول والحكومات من التشريعات والقوانين ما يحد من انتشار وسائل القوة ووسائطها بين الناس. 

  1. معادلة صراعها مع المنافسين والخصوم، رابح ـــ رابح:

إن مُخاطب الدول؛ دولً مثلها، وما تحرص عليه دولة لذاتها وشعبها؛ تتفهمه لغيرها من الكيانات السياسية. وحيث أن الموارد محدودة، ومتطلبات الأمن والرفاهية والنمو والتطور متزايدة، فإن الخلاف بين الوحدات السياسية، الإقلمية والدولية، لا محالة واقع، لذلك فإن أغلب الدول عندما تقارب حل خلافها مع خصومها أو منافسيها، وحتى مع أعدائها أحياناً، فإنها تقارب المسألة إنطلاقاً في البحث عن حلول تؤمن مصالح كل الأطراف، فلا تتفاقم الخلافات، ولا تخرج عن السيطرة، وتبقى ضمن السقوف المقبولة للتعايش معها.

ثالثاً: منطق الثورة:

فعل الثورة، مشتق من فعل ثار يثور، فهو ثائر، وهي ثائرة. والفعل يكتنز في ذاته صفة الحركة، والنشاط، واللا سكون. إنها حالة حركة غياتها الأساسية تغيير الواقع الحالي المعاش، بحثاً عما هو أفضل منه. لذلك يمكن استخلاص أهم صفات منطق الثورة بالآتي: 

  1. تغيير الواقع و(خلق) حقائق جديدة: 

تأتي الثورة لتغير الواقع وما فيه من أعراف وقوانين، كما أنها لا توفر شخوصاً يمثلون نقيضها؛ المعرفي أو السلوكي أو القانوني، فتأتي عليهم. تظهر هذه الثورة على شكل حركة مستمرة، متعاظمة، لا تسكن أو تهدء ما لم تحقق أهدافها التغييرية، التي انطلقت وقامت من أجلها.

  1. الهجوم مقدم على الدفاع:

وحيث أنها تأتي لتغيير واقعاً مُعاشاً، مُستقراً، مُتعارفٌ عليه ـــ جبراً أو رضاًـــ، لذلك فإن الهجوم عندها مقدم على الدفاع، ترى في الأول وسيلة لتحقيق الأهداف، وفي الثاني استمراءً للواقع المعاش، وإعطاءً للخصم أو المنافس أو العدو فرصة للاتقاط الأنفاس، وتنظيم الذات، وإطالة للعمر. لذلك فإجراءات هجومها وجولاته التعرضية، أكثر بكثير من نشاطاتها الوقائية والدفاعية.  

  1. البحث عن إثبات الشرعية: 

إن كانت الدول تبحث عن تثبيت الشرعية، عبر زيادة منسوب الأمن والحماية المطلوب لتأمين التنمية والرفاهية؛ فإن الثورة تبحث إن إثبات الشرعية، وشرعية أي ثورة إنما تستمد من إدامة المقاومة، وتحقيق الإنجازات، المتمثلة في الحاق الخسائر البشرية والمادية في عدوها، لذلك لا يصلح لها ــ للثورة ــ  الهدوء، والا السكون، ما لمن تحقق أصل الغاية التي قامت وانطلقت من أجلها. 

  1. الغاية تحرير يتبعه استقرار: 

الدول المستقلة المستقرة؛ تبحث عن الاستقرار، والهدوء، لتحقيق أهدافها، وتنفيذ برامجها. وغاية الثورات: التحرير، الذي يليه استقرار. والتحرير فعل متحرك غير مستقر، لذلك تبقى الثورة في حالة حركة وثوران، وتحدٍّ للواقع وما فيه ومن فيه، إلى حين بلوغها أهدافها، ومآلاتها النهائية، وفي اللحظة التي تستقر فيه واقفة، ساكنة؛ تسقط! فحركتها ضمان ديمومتها.   

  1. تعميم القدرة: 

إن أخطر ما يواجه الكيانات التي تواجه الثورات؛ تعميم القوة، وانتشار وسائط القدرة بين الناس، بحيث لا يمكن التمييز بين الثائر الفاعل، النشط، المؤثر، وبين المواطن العادي، لذلك يعمد قادة الثورة إلى نشر وتوزيع وسائل القدرة ووسائطها على أكبر شريحة مجتمعية متصورة، بحيث يحار العدو من أين يؤتى، ومن الذي يهاجمه، فبدل أن يسأل ــ العدو ــ أين الثارين والثوار؟ يصبح يسأل: من الثائرين؟ ومن هم الثوار؟ 

  1. معادلة صراعها مع المنافسين والخصوم، صفرية:

باختصار شديد؛ في معادلات الثورة، والثوار مع أعدائهم، وبعض الخصوم، لا مجال لمعادلات رابح ــ رابح، فما يربحه العدو؛ نخسره حكماً، والعكس صحيح. لا أنصاف حلول، ولا تسويات في منطق الثورات. إلى أن تضع الحرب أوزارها، وتحقق الثورة غاياتها. 

رابعاً: خلاصة واستنتناج: 

في الخلاصة، إذا استعجلت الثورة لبس لبوس الدولة، وتزيّت بزيّها، فهذا يعني أنها كبلت نفسها بقيود لا قبل لها بها، ولا طاقة لها لتحملها، فيصدق فيها مثل الــ (تزبزب) قبل (التحصرم)، فلا طعماً لزبيب، ولا قواماً لحصرم! وإذا قررت الدولة أنها تريد أن تقود وتحكم بمنطق الثورة إلى ما شاء الله، فهذا يعني أنها ستكون ممثلاً لفئة من شعبها دون أخرى، الأمر الذي يعني: لا استقرار، ولا سيادة، ولا تنمية، ولا رافهية، وإنما خضات وأزمات. لذلك فكما أن للدول منطق يحكم سلوكها، فإن للثورات منطقها الذي يخدم أهدافها، فإن خُلط بين المنطقين؛ فلن نحقق أيَ من الهدفين؛ هدف الدولة؛ الاستقرار، أو هدف الثورة؛ التغيير. والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. 

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025