كان العالم بأسره يترقب خطة ترامب، واستبشرنا خيرًا، معتقدين أن صبر الولايات المتحدة على إسرائيل قد نفد، وأن الرئيس الأمريكي سيضع نتنياهو في الزاوية، ويفرض عليه وقف الحرب فورًا والانسحاب من غزة. لكن الواقع جاء مختلفًا تمامًا؛ فقد تبين أن ما حلمنا به كان مجرد أوهام يقظة، وأن الخطة التي أعلنها ترامب تجاوزت، وبفارق كبير، كل ما كانت تطمح إليه إسرائيل نفسها. لقد جاءت الخطة أكثر تطرفًا وقسوة مما توقعنا، مؤكدة أن أصحاب السلطة العالمية قادرون على فرض أجنداتهم بغض النظر عن الآثار الإنسانية أو المصلحة الفلسطينية.
فقد أعلن الرئيس الأميركي خلال لقائه رئيس وزراء الكيان في البيت الأبيض خطة سلام تعد بها المنطقة. نصّت الخطة على الإفراج الفوري عن الرهائن مقابل انسحابٍ تدريجيٍ غير محدد زمنياً. فهل هذا سيحدث؟ الانسحاب سيكون تدريجيًا بلا سقف ولا جدول زمني بل مجرد وعد ويعلم الجميع أنه لن يتم أبدًا، ثم ماذا بعد ذلك؟ تسليم السلاح طبعًا وإفناء المقاومة خاصة حركة حماس من الوجود. كما أعلن ترامب أنه سوف يتم تشكيل هيئة دولية لإدارة القطاع، وسوف يترأسها ترامب نفسه بناء على طلب الجميع بمن فيهم الزعماء العرب. فهل سوف يعيّن على الأقل أناس من غزة؟. طبعا لا بل شخصيات بارزة من دول كثيرة ومنهم توني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق وجزار العراق!.
خطة ترمب تقوم على إلقاء السلاح وإسكات صوت المقاومة نهائيًا، وإجبارهم على تسليم السلاح وخرائط الأنفاق. مقابل وعد بالانسحاب. وبدل الاحتلال سوف يكون لدينا احتلالان، أميركي على قمة السلطة لأول مرة في القطاع، وصهيوني على الأرض يكوي الأهالي بمدافعه. ويلاحظ هنا عدم إستدعاء أي دور للسلطة الفلسطينية في الخطة المزعومة. علما بأن السلطة وقيادتها ما زالت تراهن على القبول الأمريكي والصهيوني لأي دور لها، وما زالت تقدم في سبيل ذلك تنازلات كبيرة!، لقد وقعت على اتفاق أوسلو، وأقامت التنسيق الأمني مع إسرائيل، وشاركت في قمع الفلسطينيين، حتى أن رئيسها وصف المجاهدين بأقسى الأوصاف وقال للعرب كلمات مستفزة، وبصم على كل ما يمكن البصم عليه وما زالت تطالب حماس بتسليم سلاحها للسلطة وبأنه لن يكون لها أي دور في حكم غزة مستقبلا. فماذا يمكن أن تقدم أكثر من ذلك؟
هذه الخطة لا يمكن وصفها إلا بأنها مشروع تصفية نهائي للقضية، ينطوي على استعمار أميركي مباشر وصريح. جوهرها تحويل ما تبقى من أبناء شعبنا إلى مجرد أفراد محاصرين بوظائف بيولوجية محدودة: الأكل والشرب، ثم إعادة تأهيلهم ليكونوا، في نظر المخططين، كتلة بشرية قابلة للتطويع بحيث يتحول معظمهم إلى أدوات مراقبة لصالح الاحتلال مقابل بعض المساعدات. رئيس وزراء العدو نفسه صرّح بوضوح عن نية تغيير المناهج التعليمية خلال مرحلة "إعادة التأهيل" التي ترعاها واشنطن.
فلم يعد ما يجري في قطاع غزة مجرد مشهد متكرر من جولات القصف أو صراع محدود يمكن احتواؤه، بل تحوّل إلى عملية منظمة من الإبادة البطيئة، حيث يوظّف الاحتلال كل أدواته من حصار وتجويع وتدمير لإخضاع شعب بأكمله وإرغامه على الاستسلام.
في غزة، يواجه أهلنا كارثة إنسانية متكاملة الأبعاد؛ فالماء نادر، والدواء شبه معدوم، والكهرباء مقطوعة معظم الوقت. المستشفيات تعمل بأدوات بدائية، والمدارس تحولت إلى مراكز نزوح، فيما تعيش آلاف العائلات في خيام لا تقي من برد أو حر. هذه المأساة لا تتوقف عند حدود المعاناة المعيشية، بل تمتد إلى استهداف المجتمع نفسه، عبر دفع جيل كامل للنشوء في واقع من الفقر والعزلة واليأس، في محاولة واضحة لكسر الروح الوطنية وتحويل الشعب إلى مجرد أرقام تنتظر الإغاثة.
لكن مقابل هذه الصورة القاتمة، هناك حراك عالمي غير مسبوق يضع إسرائيل تحت المجهر. في عواصم كبرى، خرجت مظاهرات بالملايين تطالب بوقف الحرب وإنهاء الحصار، فيما تحركت نقابات مهنية مثل عمال الموانئ لرفض التعامل مع السفن الإسرائيلية، معتبرة أن استمرار الصمت يعني التواطؤ. على المستوى الرسمي، برزت مواقف شجاعة من قادة في أميركا اللاتينية مثل الرئيس الكولومبي، الذي لم يكتف بالإدانة بل اتخذ خطوات سياسية واضحة ضد إسرائيل. أما في أوروبا، فقد ارتفعت الأصوات البرلمانية الداعية إلى فرض عقوبات، وهو ما يعكس تنامياً ملحوظاً في عزلة إسرائيل الدولية.
سياسات الاحتلال القائمة على التجويع كسلاح حرب باتت مفضوحة أمام الرأي العام العالمي. تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية وثّقت حرمان المدنيين من الغذاء والدواء، وهو انتهاك صريح للقانون الدولي الإنساني. كذلك لم يعد تدمير المستشفيات والمدارس ومخيمات اللاجئين قابلاً للتبرير تحت ذريعة "الدفاع عن النفس"، إذ تتكشف الحقائق يوماً بعد يوم عن حرب استهداف ممنهجة لبنية الحياة الفلسطينية.
إن أخطر ما تواجهه إسرائيل اليوم ليس فقط المقاومة الميدانية، بل التحوّل في الرأي العام العالمي الذي يضعها على مسار شبيه بما واجهه نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. ومع تزايد العزلة الأكاديمية والثقافية والرياضية، تتآكل قدرتها على ترويج روايتها، فيما يتسع نطاق المقاطعة ليشمل قطاعات جديدة.
والآن، ينتظر الجميع رد المقاومة على هذه الخطة الجهنمية. وقد صرح ترامب بأنه إذا رفضت المقاومة خطته، فسيدعم إسرائيل بكل قوته. والسؤال هنا: ماذا يعني "دعم أكثر" مما قدمته بالفعل؟ وأين نتائج اللقاء مع زعماء الدول العربية والإسلامية الذي عُقد الأسبوع الماضي؟ هل كان مجرد مسرحية سياسية أم استخفافًا بعقول العالم، وعلى رأسهم الشعوب العربية والإسلامية؟ ويزيد ترامب الطين بلة عندما يدّعي أن جميع شعوب المنطقة العربية توافق على خطته، فالسؤال البديهي: من أين استمد هذه المعلومة؟
هل ستقبل المقاومة بالخطة كما هي دون أي تعديل، وتتخلى عن سلاحها وتخرج من المشهد، مما يمكّن العدو من الاستفراد بغزة وسكانها؟ أم سترد بصيغة (نعم، ولكن!) وتطالب بتعديلات جوهرية على الورقة؟ أو هل ستستثمر الانقسامات داخل كيان العدو لإضعاف نتنياهو أو دفع حكومته إلى الانهيار؟
ختاماً، يمكن القول إن غزة رغم جراحها أثبتت أنها قادرة على إعادة تعريف الصراع، فالقضية لم تعد فلسطينية فقط بل إنسانية بامتياز. التحدي الحقيقي اليوم هو في تحويل هذا التضامن العالمي من مشهد عاطفي إلى قوة ضغط سياسية ممنهجة، تدفع باتجاه محاسبة الاحتلال وإنهاء الحصار، وتجعل من فلسطين عنواناً دائماً للحرية والعدالة.
وكلنا إيمان وثقة بالله، فالله أعلى وأكبر من أمريكا وغيرها!