تغريبة المؤبّدات الفلسطينيّة (2)

وليد الهودلي

كاتب وأديب فلسطيني


حسن سلامة مثالًا

رسالةٌ مقتضبةٌ إلى الأخ المفاوِض العزيز... (أنقذوا ما تبقى من شرف لنا في السجون. )

لا شكَّ أنّكم تُدرِكون تمامًا عمَّن نتحدّث؛ الحديثُ عن هذه الأسطورةِ الفلسطينيّةِ التي لو أردنا أن نُعطيها حقَّها، فإنّها تحتاجُ إلى روايةٍ لا إلى مقالٍ.

ليس من السهل أن تُنتِجَ أمّةٌ عظيمةٌ، وهي في أوجِ عظمتِها، مثلَ هذا الرجل. أمّا أن تُنتِجَ رجلًا بأمّةٍ في ظُروفِها المهزومةِ والمأزومةِ، فهذا يقتربُ أن يكونَ معجزةً.

هذا الذي قارع كيانَ القهرِ والبلطجةِ في المنطقةِ دهرًا من الزمن، علَّمَ عليهم، وأذاقَهم بأسَ ما تقترفُ أيديهم من جرائمَ في حقِّ شعبِه. أحدثَ فارقًا عظيمًا في فعلِ مقاومةِ الاحتلال، وحقّق ذروةً سامقةً على طريقِ المواجهةِ المفتوحة، وكان مشتبكًا بكلِّ الطُّرُقِ الصعبة.

شكَّلَ في عمليّاته سِياطًا ألهبتْ ظهرَ المحتلّ، وروحًا عاليةً مُلهِمةً لكلِّ من سارَ وسلكَ دربَ مُقارعةِ المحتلّينَ وكلِّ طواغيتِ الأرض.

قادَ العمليّاتِ الفدائيّةَ التي سُمِّيَت في حينها بـ«الثأر المقدَّس» ردًّا على اغتيالِ يحيى عيّاش، فاعتُقِلَ وحُكِمَ بثمانيةٍ وأربعينَ مؤبّدًا.

هنا تفاصيلُ كثيرةٌ سنقفزُ عنها، حيث لا يجوزُ القفزُ، ولكن لأنّكم تعلمون ما أعلمُ بكلِّ تفاصيلِ هذا الرجلِ العظيم.

بعد ذلك، نتابعُ حياتَه في السجنِ بعد أن كان من نصيبِه الاعتقالُ والارتهانُ في سجونِ حثالةٍ بشريّةٍ لا تعرفُ للوحشيّةِ حدودًا.

أذكرُ عندما جاءوا به بعد انتهاء فترةِ التحقيقِ القاسية مباشرةً إلى سجنِ عسقلان عام 1996، ساعاتٍ ثم ذهبوا به إلى العزل، وقالوا إنّ الإتيانَ به إلى السجنِ كان خطأً. بالتأكيدِ لم يكن خطأً، ولكن أرادوا له أن يرى السجنَ الذي يبدو عالمًا فسيحًا في نظرِهم، ثم اقتادوه إلى العزلِ في ذاك المكانِ الضيّق، ليُدرِكَ الفارقَ الكبير، ويذوقَ العزلَ بكلِّ مرارتِه أضعافًا مضاعفةً.

مكثَ في العزلِ أربعةَ عشرَ عامًا، وهنا لا يجوزُ أن نمرَّ عليها مرورَ الكرام؛ لم تكن أربعةَ عشرَ يومًا ولا شهرًا. كيف قطعَ هذه المسافةَ في صحاريهم القاحلة؟ وكيف تقلَّبَ في زنزانةٍ لا تتّسعُ لصدى أنفاسِه الحارّة، ولا يستطيعُ السيرَ فيها خُطوتينِ أو مناجاةَ إنسٍ أو جانٍّ؟

وتأتيه الأصواتُ الصاخبةُ طيلةَ الليلِ من الزنازينِ المجاورةِ التي أسكنوا فيها عُتاةَ الإجرامِ عندهم، فلا تسمعُ منهم إلّا فاحشَ القولِ وبذاءةَ ألسنتِهم القذرة.

بعد سبعٍ وعشرينَ سنةً من دربِ الآلامِ هذا، وصلنا – سادتَنا الكرام – إلى الحقبةِ الأشدِّ شراسةً ووعورةً. إنّها حقبةُ «ابنِ رُجَيم»، ابنِ رُجَيم الذي نجحَ في تحويلِ السجونِ إلى جحيمٍ كما تعلمون.

هذا للعامةِ من الأسرى، ولكن ماذا فعلَ بالخاصةِ أمثالِ حسنِ سلامة؟

هل هناك خيالٌ بشريٌّ – ولو كان من صانعي أفلامِ الرعب – قادرٌ على أن يرويَ للناسِ ما فعلَ بنخبةِ الأسرى أمثالِ حسن؟

أكيدٌ سمعتم عن اعتداءاتِ الكلاب، البشريّةِ منها والحقيقيّةِ السوداءِ الضخمةِ البشعةِ، كلابٍ بشرية سكنها الشيطانُ وتربّعَ في صدورِها، دَرّبتْ الكلاب على كلِّ ما هو فاحشةٌ وقبيحٌ، ما عرفته البشريّةُ وما لم تصِلْ إليه بعدُ. ووظفتها في ماكينة العذاب الجهنمية التي أعدت خصّيصا للنخبة.  

لقد وسّعَ ابنُ رُجَيم خيالَه العنصريَّ الحاقدَ، وفتحَ كلَّ مصادرِ الطاقةِ المجرمةِ في دماغِه، ثم صبّها على قادةِ الأسرى، حسنٍ وأمثالِه العِظام.

أراد أن يسحقَ كرامتَهم ويفضَّ بكارةَ رجولتِهم، أراد أن يلغَ في كلِّ مكنوناتِ نفوسِهم الشريفة، ويبصقَ بصقَه النجسَ حيثُ يصلُ خيالُه الحاقدُ المريض.

لكم أن تُوسّعوا خيالَكم لتصلوا إلى ما فعلَ في شرفِنا المتمثّلِ في هؤلاء الأحرار، ولن تصلوا.

لن تصلَ المشاعرُ الطيّبةُ أن تتخيّلَ ما وصلَ إليه هذا المخيالُ المجرم.

وحرصًا على صورتِهم العظيمةِ أتوقّفُ عن التفاصيلِ؛ لأنّها مؤذيةٌ وجارحةٌ وصارخةٌ وقاتلةٌ لكلِّ معاني الرجولةِ فينا.

أيّها المفاوِضُ العزيز، لم تعدِ المسألةُ تحريرًا من سجنٍ، ولا إنقاذًا من موتٍ، وإنّما هي انتصارٌ لشرفِنا، وإخراجٌ من مكانٍ تُغتَصَبُ فيه كلُّ المحرَّمات.

إنّها إنقاذٌ لما تبقّى لنا من أملٍ يُبقينا على قيدِ الحياة.

أحبّتنا، لا مجالَ لتجاوزِ هؤلاء الرجال مهما كانت الموازنات صعبة ومعقدة، وما تغريبةُ حسنِ سلامةَ إلّا مثالٌ على تغريبةِ كلِّ المؤبّدات.اليوم لم تعد تحرير أسرى من سجن بل هي إنقاذ ما تبقى لنا من شرف يستبيحه ابن غفير بكل وحشية وقذارة ..

طِبتم وطابَ مَمشاكم، ويسر الله لكم كل الصعاب وكل التعقيدات مهما بلغت ومهما تعاظمت وفتح عليكم من فتحه العظيم .

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025