"يهودي" يرى غزة من أوشفيتز

أنا يهودي.
كنت يومًا رقمًا على ذراع، وجثة مؤجلة في قطار يسير بلا وجهة، رأيت أفران الغاز، سمعت صراخ الأمهات، شممت رائحة اللحم البشري يحترق، كنت هناك، في أوشفيتز، في بوخنفالد، في غيتو وارسو، في ظلمة لا شمس فيها، ولا رحمة، ولا لغة إلا الموت.
وحين خرجت حيًا، قالوا لي: "لقد نجوت"، لكنني اليوم، وأنا أرى غزة تُباد، أدرك الحقيقة الأشد مرارة: لم أنجُ.
نجوت جسديًا، نعم. لكن روحي ظلت معلّقة في ذلك المعسكر، واليوم أراها تُسحق من جديد، لكن ليس بأيدي النازي، بل بأيدٍ تُشبه يدي، تحمل اسمي، وتتكلم لغتي.
لقد نشأنا على أن المحرقة هي المأساة العظمى، التجربة التي لا يمكن مقارنتها بشيء، لكن ماذا لو تجاوزها الواقع؟
ماذا لو أن غزة، بكل ما فيها من موت، جوع، حصار، قصف، ودمار، أعادت تعريف الجحيم؟
كنت أظن أن الهولوكوست قاع العالم الأخلاقي، لكنني أرى اليوم في غزة ما لم أره هناك:
إبادة تُبث على الهواء، بتصفيق، وبفخر قومي، ودعم دولي.
نعم، هناك كانت أفران الغاز، لكن هنا تُحرق الأحياء، لا الأجساد فقط، هنا، يُحاصر مليون طفل، ويُدفن الآلاف تحت الركام، وتُقصف المستشفيات، وتُمنع المياه، ويُقطع الخبز، هنا، تُباد الحياة، لا فقط الأجساد.
لقد بنينا سجونًا ومعسكرات تفوق بشاعتها السجون النازية.، ليس لأننا أكثر تطورًا، بل لأننا أكثر تجريدًا للإنسان من إنسانيته، نعذب ونسلخ ونغتصب ونجوع، ويقودنا شخص يشبه هتلر اسمه ابن غفير، وتوراة حللت قتل الاطفال والنساء ومحو الفلسطينيين من الوجود، وباسمه نُطلِق على أحياء كاملة اسم "مناطق عمليات"، ثم نُسوّيها بالأرض كما كان النازيون يفعلون بنا، من هذا الرب الذي يسكن في تل ابيب وليس في السماء؟
انا يهودي ناج من المحرقة، النازيون أحرقوا الجثث في أفران الغاز، ونحن نحرق شعبًا كاملًا على الهواء، بالصوت والصورة، ونحن نعلم، ونُبرّر، بل نُصفّق ونستمتع كالشواذ.
بل إن قوانيننا  تلك التي نفاخر بها  أشد قسوة من قوانين نورمبرغ، نقنّن التمييز، نُشرعن الحصار، نُبرّر القتل الجماعي تحت غطاء الأمن، والدفاع عن النفس، ونحوّل العدالة إلى أداة للقمع.
هل بعد هذا نجرؤ أن نقول إننا "شعب أخلاقي"؟
هل يمكن لمن نجا من المحرقة أن يصنع محرقة جديدة؟
هل يعقل أن يتحول الناجون إلى جلادين باسم الذاكرة؟
كنت أظن أن الهوية اليهودية تعني النجاة، النور، العدل، لكنني أراها اليوم تتشظى، تتكسّر أمام المرايا، الهوية مكسورة، تنهار حين تبرّر القتل، تتلوث حين تصمت أمام الجريمة، وتُمحى حين تشارك في ذبح الأبرياء.
أيها الإسرائيليون، أنتم لا تنتقمون من التاريخ، بل تُكرّرونه  بأسوأ صورة.
أنتم لا تكتبون مستقبلًا آمنًا، بل تزرعون كراهية أبدية.
أنتم لا تحمون الدولة، بل تُجهزون على الروح، لم تعد اسرائيل بلدا امنا، بل مشهدا عسكريا دائما وخوف، المدرسة صارت معسكر، والتطرف في كل حرف.
ما فعلناه في غزة جعلني منبوذا أمام نفسي وفي كل مكان، اشعر بالخزي والعار، اشعر أن دولتي حولتني إلى وحش قبيح، وسأظل مطاردا عبر الزمان.
وأنتم، أيها العالم، الذي أقام النصب التذكارية في كل العواصم، أين أنتم الآن؟ هل مات ضميركم عند أبواب أوشفيتز؟ هل دماء الفلسطينيين لا تثير فيكم شيئًا لأنهم لا يُشبهونكم؟
حتى لو توقفت الحرب، ستبقى روحي محطمة، شبح غزة يلاحقني في النوم وفي اليقظة، لا يمكن النسيان، الاشلاء البشرية المتطايرة، الجثث، التجويع، الهدم والتشريد، الصراخ، القنابل والصواريخ التي تصهر الناس، مشاهد تقودني إلى الانتحار.
وأنتِ يا غزة...
أنا آسف.
آسف لأنني نجوتُ من موتي، ولم أنجُ من عاري.
آسف لأنني عشت لأشهد الجريمة، لا لأمنعها.
آسف لأن من حملوا ذاكرتي، حوّلوها إلى سلاح ضدكِ.
أنا لا أكتب هذا كعدو، بل كمن يرى صورته تنعكس في عين من يُقصف، كمن تعلّم من المحرقة أن الحياة مقدسة، ثم شاهد قومه يسحقونها تحت الدبابات.
أنا ناجٍ... ولكن ليس حقًا.
روحي لم تنجُ.
ضميري محاصر بين الماضي والحاضر.
وما دامت غزة في الجحيم، فأنا ما زلت هناك.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025