تمزيق وحدة الساحات بين مخيم جنين وعين الحُلوة

إسلام حامد

باحث وأسير فلسطيني

 

 

دراسة بعنوان/

تمزيق وحدة الساحات بين مخيم جنين وعين الحُلوة.


بقلم الأسير الكاتب/

إسلام حسن حامد


الباحث في مركز حضارات للدراسات السياسية والاستراتيجية



مقدمة:

لماذا الفوضوية؟ (أناركية-Anarchism)، بشكلها السياسي والاجتماعي تحولت إلى عقيدة أيديولوجيا عكست ذاتها ومعناها على السلوك الفلسطيني اليومي، وتحديدًا في المخيمات الفلسطينية في الشتات، وإلى حد كبير الحال كذلك في داخل الجغرافيا الفلسطينية المحتلة.

ثم كيف، ومع وجود تنظيمات فلسطينية بأشكالها وأطيافها وألوانها، أو حتى سلطة الأمر الواقع في رام الله، يتم تغييب دولة القانون؛ كممارسة لضبط الواقع بحسب مقتضيات القانون، والاكتفاء بالطبيعة البشرية المتوحشة التي تشعر بامتلاكها أدوات القهر أنها سيدة العالم، ولها الحق في فعل أي شيء وإن كان غير سويّ؟  

ويتعلق بذلك استجلاب (حكم القيمة-Value judgment) وهو الحكم الذي يصدره الفرد حول مدى القيمة الأخلاقية أو النفعية أو الجمالية لشخص أو لشيء أو لفكرة ما، من منظور المقارنة أو النسبية، وذلك بناءً على معايير الشخص مطلق الحكم وأولوياته1، وإسقاطه على المركبات الفكرية، الأخلاقية والسياسية لعموم حالة الفصائل الفلسطينية، وسياقاتها العملية، لوجدنا أن الأحكام ستكون على غير ما تدّعيه الفصائل أو بعضها، -حفظًا للاحتمال- في أحسن الأحوال.

من وحي ذلك هل يمكن لنا أن نحكم مثلًا على منظمة التحرير الفلسطينية، وأغلب فصائلها التي تدور في فلك قيادتها الوظيفية، ويضاف إليهم سلطة الأمر الواقع في رام الله، وأجهزتها الأمنية الوظيفية، بأنهم غارقون في مستنقع (الدوغما-Dogma) باعتبارها "الوثوقية أو التصلب الفكري؛ وهي تسمية تطلق على الجمود العقائدي، سواء تعلق بمذهب أو أيديولوجيا أو رأي، عندما يقترن بالتمسك بالفكر المعتنق دونما اعتبار للحقائق المناقضة له"2

هذه الحقائق المتوافقة هنا مع المحتوى الظرفي للتجمعات الفلسطينية في مخيمات اللجوء في الشتات، أو غيرها، تدلل على انفصال جذري بين التشكيلات الفصائلية وعلى رأسها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وبين هموم ورغبات وحاجات الشعب الفلسطيني، المطالِبة بالتحرر من الاحتلال الصهيوني والعودة إلى الأرض المقدسة التي هجّروا منها ظلمًا وطغيانًا.




لكن الجمود بالتوجهات والمصالح، المصبوغ بالخطاب الأيديولوجي لتلك الفصائل، وكان الهدف منه عكس صورة مشوّهة للواقع، وهو هنا بحسب التعريف الماركسي للأيديولوجيا؛ لتلبي حاجات ومصالح فئة محددة، ليكون الناتج عن كل ما تقدم، وما تقدمه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وأذرعها الأمنية والوظيفية، وعياً مزيفًا بهذا الواقع، المرتبط بشكل وثيق مع مصالحها الاستنفاعية، والسياسات المعروفة عنها، كالصراع المتواصل مع المحيط العربي، والتورط بالاشتباكات البينية مع هذا النظام أو تلك الجماعة، بدءًا من الأردن إلى لبنان ضمن الحرب الأهلية، إلى معارك المخيمات الفلسطينية في لبنان، والتدخل لصالح العراق في غزوه للكويت الشقيق، وصولاً إلى ارتكاب مجزرة مسجد فلسطين في غزة حال وصول السلطة الوظيفية وأجهزتها الأمنية إلى قطاع غزة عام 1994، انتقالاً إلى ملف الاعتقال السياسي بحق المقاومين والمعارضين لسياسات السلطة التي بدأت بممارسة هذا الفعل اللاأخلاقي واللاوطني منذ العام1996، والمستمر حتى يومنا هذا، مروراً بالانقلاب على نتائج انتخابات المجلس التشريعي عام2006، والتحول إثر ذلك إلى العمل العلني من خلال سياسة التنسيق الأمني -المقدس- بحسب رئيس سلطة رام الله، التي تعمل على مقاومة المقاومة، لإضعافها وإنهاكها لصالح مشروعها الأمني المشترك مع الاحتلال الصهيوني، الداعي إلى تثبيت سلطة رام الله وقيادتها السياسية الاقتصادية، مقابل تثبيت الأخيرة للأمن الذي يحقق الاستقرار للكيان الصهيوني، وعلى رأسه المشروع الاستيطاني التهويدي للأرض الفلسطينية.

كما برز الدور الوظيفي لهذه السلطة أثر حصارها للمقاومة الفلسطينية بعد انتصارها في مخيم جنين عبر معركة #بأس-المخيم، وأشكال أخرى كتفعيل أجهزة الفتنة، كما في مسيرات بدنا انعيش في قطاع غزة، ويتزامن كل ما سبق مع الاشتباكات المسلحة في مخيم عين الحلوة عاصمة اللجوء الفلسطيني في الشتات تحت حجة مصادرة السلام المأجور، وقطع الطريق على دعاة المربعات الأمنية.

بين هذه الأفكار وغيرها تقدمها هذه الورقة في قراءة نقدية تحليلية للحضور الوطني الفلسطيني المقاوم، والمحاولات الدؤوبة من قبل سلطة رام الله الوظيفية وأذرعها الأمنية التي تعمل على مدار الساعة، على تفكيك بنية الشعب الفلسطيني الاجتماعية والسياسية، واستهداف مقاومته بكل الطرق والوسائل.




أولًا: مختصر جغرافيا المجتمع الفلسطيني.

أصبح معروفًا أن تقسيم المجتمع الفلسطيني إلى جغرافيا المعازل مرّ عبر عدة مراحل، أصعبها عشية معارك النكبة عام1948، التي هجر فيها قرابة 800 ألف فلسطيني من المناطق التي تعرف اليوم بمناطق الـ48، هذا وقد بقي فيها قرابة 130 ألف فلسطيني تحولوا اليوم إلى خط الدفاع الأول، لتثبيت التواجد الفلسطيني على الأرض المحتلة، الذي بلغ تعدادهم إلى أكثر من مليون ونصف، داخل جغرافيا الـ48، وبشكل تلقائي رافق ظهور مناطق الـ48 المحتلة إلى صعود معازل جديدة أصبحت تعرف بالضفة الغربية، وقطاع غزة، لتبدأ الأردن بعملية ضم الضفة الغربية إلى المملكة وإلغاء كل ما يتصل بالهوية الفلسطينية، وهذا بخلاف ما قامت به دولة مصر المسيطرة على قطاع غزة في حينه، من عدم ضمه للدولة المصرية أو إلغاء هوية الفلسطيني فيه.

بعد معارك النكبة استوعبت الضفة الغربية وقطاع غزة المهجرين من مناطق الـ 48، الذين تم تعريفهم كلاجئين، مشكلين بذلك أولى المخيمات الفلسطينية فيهما، أما مهجرو القرى والمدن الشمالية في فلسطين المحتلة، فقد توجهوا نحو لبنان وسوريا، مشكلين فيهما مخيمات اللجوء الفلسطيني التي من أبرزها مخيم عين الحلوة الواقع في الجنوب من مدينة صيدا الساحلية اللبنانية، ومخيم اليرموك المتصل بالعاصمة دمشق السورية.

تجدد اللجوء الفلسطيني مرة أخرى بعد حرب عام 1967 وما اصطلح عليها بالنكسة الفلسطينية والعربية معًا، ليتوزع اللاجئون على مناطق الضفة الغربية، وقطاع غزة وانتشارهم في الأردن وسوريا ومصر وغيرها من دول المنطقة.

في اللجوء تشكلت الهوية الوطنية الجمعية الفلسطينية داخل المخيمات، بالتوازي مع الإفرازات الفكرية والأيديولوجية المتنافسة، تشكلت الفصائل الفلسطينية في المخمات أو بالارتباط الوثيق معها، ليكون أحد مخرجاتها الفعل والحراك الوطني المقاوم، إلا أن هذه الفصائل التي توالت في الإعلان عن نفسها ضمن أيديولوجيات سائدة كالاشتراكية أو دعاة القومية، أو كفصائل تتبع سياسات منشئيها كالعراق وسوريا؛ لتظهر السياسات ومخالفاتها وحتى الصراع عليها عبر العمل الوطني الفلسطيني.




فعلى الجانب الأردني سيطرت المنظمات الفلسطينية -فتح واليسار- على المخيمات، وأقامت معسكرات ومواقع فيها، بخلاف الحال في معازل الضفة الغربية وقطاع غزة لوجود الاحتلال الصهيوني بشكل مباشر فيهما، لم يكن هناك ذلك التواجد التنظيمي والعسكري على شاكلة ما هو عليه الأمر في الأردن، بل بدرجات أقل بكثير.

لم يستمر الوضع على حالته الوردية، بل أصبحت الفصائل الفلسطينية تهدد استقرار الأردن التي أوصلت نفسها للدخول في أتون حرب أهلية مع الأردن عام 1970 لا طائل منها سوى تنفيذ أجندات تخدم الولاءات الأيديولوجية أو المصلحية المتعددة عبر هذه الفصائل، لذلك سعت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية الجديدة، والتي سيطرت حركة فتح عليها عقب انتخاب ياسر عرفات رئيسًا للمنظمة مطلع عام 1969 في الجلسة الخامسة للمجلس الوطني الفلسطيني الذي انعقد في القاهرة، وإثر دخول الفصائل المسلحة وانضمامها للمنظمة، إلى التوجه نحو لبنان بعد المعارك الطاحنة في الأردن التي خسرت المنظمة قيمتها الوطنية لدخولها في الاشتباك الداخلي العربي، وخسرت القضية الفلسطينية الحدود الواصلة بين الأردن وفلسطين ذات الطول والتضاريس المهمة للعمل المقاوم، لتعيد المنظمة وفصائلها الانطلاق من جديد، داخل المخيمات الفلسطينية في لبنان.

وقد نظم الوجود الفلسطيني في لبنان اتفاق القاهرة الذي أبرمه ياسر عرفات مع الجيش اللبناني عام 1969 الذي أجاز الأخير فيها تنفيذ نشاطات نضال تحرري فلسطيني وضمنت الحقوق المدنية في لبنان.

ومع ضعف الدولة والجيش اللبناني سيطرت منظمة التحرير الفلسطينية على الجغرافيا في المخيمات ومحيطها، وشكلت دولة داخل دولة، الذي أدى إلى تجاوزات خطيرة على السيادة اللبنانية، كما أنها قادت إلى تحولات في الاعتبارات الديموغرافية والسياسية، ودخول رغبات وتوجهات دول عدة مثل سوريا، فرنسا، المستعمر السابق، والولايات المتحدة الأمريكية عدا عن أجهزة مخابرات عدة مثل: الليبية، العراقية، المصرية، -أو حتى اليد الخفية المخابرات الصهيونية- إلى تفاقم الوضع والدخول مجددًا في نار الحرب الأهلية كان الفلسطيني وقضيته الوقود فيها.

دامت الحرب الأهلية في لبنان قرابة 15 عامًا بدءًا من عام 1975، ليتدخل الكيان الصهيوني فيها بشكل مباشر، بحجة حماية المسيحيين الموارنة، لكيلا يتم إعادة الإبادة الجماعية بحقهم، ومع ظروف أخرى حصل  





اجتياح عام 1982 الذي استمر على الأرض كسلطة احتلال حتى عام 2000، الهدف الحقيقي كان استهداف القواعد العسكرية الفلسطينية في لبنان وإنهاء تواجدها، تقويضًا للقضية الفلسطينية وكسرًا لظهر الوطنية الفلسطينية المشتعلة في الضفة الغربية تحديدًا ليتم ضمها واستيعابها لصالح التوسع الاستعماري الصهيوني.

وبذلك خرجت منظمة التحرير الفلسطينية والقضية الفلسطينية برمتها من لبنان إلى شتات جديد، وتحول الفلسطيني إلى فريسة سائغة داخل المخيمات الفلسطينية في لبنان، أدت إلى ارتكاب المجازر بحقه، إما عن طريق المتخوفين من بقايا التواجد الفلسطيني في لبنان، وإما عن طريق المعارك البينية التي سجلت عنوانها بحرب المخيمات بين الفصائل الفلسطينية ذاتها، إثر تصادم الولاءات والمشارب الفكرية العديدة.

ليستقر الحال على حصار المخيمات، ومنع الحياة الكريمة عنها إلى يومنا هذا، وإعادة تسليمها بما هو مقبول لأطراف المعادلة اللبنانية، مشكلًا ذلك مربعات وجُزُر أمنية بحجة حمايتها من أي استهداف خارجي أو داخلي، إلا أن الحاصل كما يبدو غير ذلك3

ثانيًا: الفوضوية الفلسطينية في المخيمات اللبنانية

بعد انحلال عُقد الكفاح المسلح وتمظهراته العجيبة في لبنان وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت إلى بحر المجهول، مسبوقًا بخلافات عميقة حول التكتيكات والاستراتيجيات بين الفصائل الفلسطينية الفاعلة في لبنان، تم عقد اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988 لنقاش الواقع الجديد، كان من أبرز تساؤلاته ماذا بعد الرحيل من بيروت؟

إلا أن المؤتمر لم يكن سوى -مهرجان المقاومة- كمظهر خارجي، ومن الداخل شكل فشلًا في النقد الذاتي فيما يتعلق بالمحددات التي تحكم النضال الوطني الفلسطيني.

بالإضافة إلى ذلك قدم شفيق الحوت الذي كان يشغل ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، خطابًا لاذعًا قال فيه: لم يبق على التنظيمات الفلسطينية سوى تبادل السفراء فيما بينهما، فلكل تنظيم رايته، ولكل تنظيم متحدث باسمه، ولكل تنظيم مقره ومكاتبه وقواته المسلحة واحتفالاتهم  



الخاصة4، لماذا؟ لأن كل تنظيم يحمل (الدوغما-DOGMA) الخاصة به، رغم كل الهزائم والانهيارات العملية لمشاريع ومشروعية تلك التنظيمات.

ليؤدي ذلك أيضًا إلى انشقاقات داخلية في فتح على سبيل المثال، رفضًا وتمردًا على ياسر عرفات باعتباره تخلى عن خيار الكفاح المسلح وتوجه نحو الدبلوماسية.

ومن أبرز المنشقين أ. موسى الذي شكل فتح الانتفاضة المدعومة سوريًا، بالإضافة إلى التنظيمات اليسارية، الجبهات الشعبية، الديموقراطية، والقيادة العامة، لتحصل إثر ذلك معارك مسلحة خلال سنوات 1984-1985 بين الأطراف المؤيدة لخيار عرفات وتوجهاته وبين ما سمي جبهة الرفض الفلسطينية، المتمثلة بالفصائل المدعومة من سوريا، ومعارك أخرى بين حركة أمل الشيعية ومن تبقى من فتح في المخيمات، وكذلك معارك الفلسطينيين مع المسيحيين الماردنيين بين أعوام 1985-1987، التي حوصر فيها المخيمات الفلسطينية، وظهور الجماعة فيها، هذه الأحداث وغيرها فرضت مناخًا حتى يومنا هذا يضيق أو يتسع بحسب الولاءات والإملاءات للرعاة الحصريين لهذا التنظيم أو ذاك.

ثالثًا: بروز المقاومة في الداخل المحتل

لم تتوالد المقاومة في الداخل المحتل بفعل تشكلها الطارئ، كما حصل مع فصائل الثورة الفلسطينية التي تشكلت في مخيمات اللجوء والشتات، بل هي امتداد طبيعي للفعل المقاوم منذ انتفاضة يافا 1921 مرورًا بثورة البراق 1929 إلى مجموعة القسام 1935 ثم معارك النكبة...، ليستمر الفعل المقاوم في الداخل المحتل بأشكال عدة وصولًا إلى الانتفاضة الأولى، والتي يمكن وصفها كحدث مؤسس للمقاومة الفلسطينية داخل الشعب الفلسطيني.

فهي التي أسست المجموعات العسكرية للفصائل الفلسطينية التابعة للمنظمة وبروز مجموعات عسكرية جديدة تتبع حركتي حماس والجهاد الإسلامي، كما أن الفعل المقاوم وإن كان في عموم الأراضي المحتلة عام 1967 إلا أن الريف الفلسطيني والمخيمات في الداخل المحتل، تقدما الصفوف لاعتبارات عدة، من أهمها الاحتكاك اليومي المباشر مع قوات الاحتلال الصهيوني ومستوطنيه، بالإضافة إلى تجذر السياق الوطني المقاوم في العقل الجمعي الفلسطيني، النابع من الإيمان بإمكانية العودة إلى البيوت والقوى المهجرة، إلى عوامل أخرى كالحرمان الاجتماعي، والضغط السكاني  



وغيرها، وبالتالي فإن العامل المركزي -من وجهة نظري- لعملية التحرر هو وجود المخيمات الفلسطينية، كونها الصرح الأكثر بروزًا والدال على المآسي التي حصلت للشعب الفلسطيني من اقتلاعه من أرضه وتهجيره منها، هذا وكما أنها تمثل حق العودة، الأساس المحرك للقضية الفلسطينية، تمثل بذات الوقت تشيُّد القيادة المقاومة للمشروع ذاته.

هنا يأتي مخيم جنين، المشكل من لاجئين وسط فلسطين وشمالها، ليكون شعلة المقاومة في شمال الضفة الفلسطينية وعمومها، متربعًا على سيادة المقاومة الفلسطينية المسلحة، وصانع الانتصارات المرة تلو الأخرى رغم كل الهدم والدمار، يؤمن بالوحدة الحقيقية للعمل المقاوم المسلح الذي أنتج أدوات التحدي والصمود أمام آلة القتل الصهيونية، التي بها تم تجاوز كل المعيقات، كحالة الانقسام الفلسطيني، ومنعها من التغلغل فيه، رافضًا لأي حضور لسلطة رام الله وأجهزتها الأمنية باعتبارها أدوات وظيفية تعمل لصالح الاحتلال الصهيوني.

وعليه فإن التحرر من القيود الداخلية هو القاعدة الأساسية التي قادت مخيم جنين للتحرر من قيود الاستعمار الصهيوني، هذا وفي اللحظة التي وقعت فيها القضية الفلسطينية فريسة بيد أسياد التنسيق الأمني في رام الله، تراجعت المقاومة، وصعد الاستعمار الاستيطاني الإحلالي التهويدي لكل ما تمثله الجغرافيا الفلسطينية، لذلك  فإن وجود أتباع المنظومة الأمنية في رام الله يقود بالحتم إلى الانقسام ولاشتباكه الداخلي، وعدم وجودهم في بؤرة المقاومة كقطاع غزة واليوم مخيم جنين حول هذه البؤر إلى نقاط ارتكاز عسكرية تعتبر نواة العمل المقاوم في الطريق نحو التحرير.

رابعًا: السلاح في مخيم جنين وعين الحلوة، فعل بين سياقين.

مفتاح التمايز هو المقاومة، فمتى كان هناك مقاومة، كان السلاح نظيفًا من كل زلل، وإذا تحول إلى غير ذلك، ظهر الاشتباك الداخلي والانقسام، فحالة مخيم جنين البارزة للعيان، ليست جزءًا من صراع القوى الإقليمية أو المحلية، كما هو الحال في مخيم عين الحلوة، والاشتباك الحاصل في جنين هو مع العدو الصهيوني ووكلائه، وهذا بخلاف الحال في عين الحلوة، فهو اشتباك نفوذ وسيطرة، لنطرح هنا تساؤلات حول الاشتباكات المتكررة داخل مخيمات اللجوء في الشتات ومن المستفيد منها؟




وإذا بحثنا في (حكم القيمة) لسلاح المخيمات الفلسطينية في الشتات، الذي يعتبر امتدادًا لوجود منظمة التحرير الفلسطينية سابقًا بقواتها العسكرية وفصائلها، لوجدناه امتدادًا للولاءات المتعددة لهذا الفصيل أو ذلك، فكما الأمس القريب عندما اشتبك الفلسطيني الموالي لسوريا أمام الآخر الموالي لمصر، ليبيا، السعودية، وغيرها ممن يدفع أكثر تولدت حرب المخيمات، ومن قبلها الحرب الأهلية في لبنان، دون تجاوز للحرب الأهلية التي قادتها فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في الأردن ضد السلطة الملكية الحاكمة هناك.

لنسقط على هذا السلاح (حكم القيمة) الأول، بأنه سلاح ذات علاقة منفصلة عن الواقع، والمغاير للخطاب الزائف (الوطني) المقدم للجمهور الفلسطيني من قبل حامليه، فسلاح المخيمات في لبنان لم يوجه نحو الكيان الصهيوني منذ عقود، حتى تغيرت الصورة بظهور حركتي حماس والجهاد الإسلامي وانتشارهما داخل القواعد الشعبية في اللجوء الفلسطيني، حيث أنشأتا كتائب مقاتلة بالتوافق مع المقاومة الإسلامية في لبنان كم هو الواضح مؤخرًا، من أجل الاستعداد للمعركة القادمة، دون أن يكون هذا السلاح سلاح فلتان أمني أو حواجز قهر وإذلال، أو المنشىء للمربعات الأمنية كجُزُر يتحكم فيها الفصيل ذات السطوة والقوة.

فإطلاق المقاومة الفلسطينية للصواريخ خلال الأشهر الماضية من الجنوب اللبناني لهو خير دليل على صدقية وطهارة هذا السلاح والمشروع القادم منه.

ومع ذلك فإن التحول الجذري في شكل السلاح الفلسطيني داخل المخيمات في الشتات بدأ عندما تم إعادة تشكيل العناصر المسلحة ذات الولاء الحصري لرئيس سلطة رام الله محمود عباس، ضمن قوات الأمن الوطني التابعة لقيادة القوات في رام الله، لتصبح الذراع الأمني الطويل، الذي ينفذ سياسات سلطة رام الله وتوجهاتها الأمنية، وعلى رأسها التنسيق الأمني، ومحاربة أي سلاح آخر خارج عن سيطرتها، وتحديدًا السلاح المقاوم لجميع أشكال التواجد الصهيوني في المنطقة.

فالتقرير الأمني الذي يرفعه أحد عناصر الأمن الوطني في المخيمات الفلسطينية إلى قيادته في رام الله، هو ذات التقرير الذي سيصل إلى أجهزة أمن العدو الصهيوني الذي سيعيد قراءته وأخذ العبر منه، لإقرار كيفية مواجهته وإنهاء خطورته.




خامسًا: مخيم عين الحلوة الجرح النازف

هناك إجماع فلسطيني حول مخيم عين الحلوة، بأنه عاصمة اللجوء الفلسطيني في الشتات آخذًا بذلك رمزية الصمود والمقاومة والرفض لكل حلول التوطين أو السيطرة على المشروع الوطني الفلسطيني، المتمثل فقط بالمقاومة حتى القرى باعتباره خيار الأغلبية من أبناء الشعب الفلسطيني، ولوجود أهداف متباينة حول التحرير وطرقه من جهة، ومن جهة أخرى بأصحاب المؤسسة الرسمية التي تتبع لسلطة رام الله ذات المشروع الوظيفي، وارتباط البعض مصلحيًا بهذا الفريق أو ذلك، يظهر التباين على السطح بشكل اشتباك مسلح أو اغتيالات متبادلة، كما حصل مؤخرًا من محاولة اغتيال لأحد العناصر الإسلامية في مخيم عين الحلوة، الذي قاد إلى رد فعل باغتيال مضاد قتل فيه اللواء أبو أشرف العرموشي المحسوب على مرتبات الأمن الوطني التابع لسلطة رام الله.

الغريب أن الاشتباك والاستهداف الحاصل يشابه الكثير من الحوادث السابقة إن كان بقيمة الاستهداف كالعرموشي أو خطورة المشهد الفلسطيني واستقراره، لكن اليوم التركيز كان على عدة نقاط محورية منها:

هل السلاح الفلسطيني في المخيمات اللبنانية هو سلاح مأجور؟ إن كان لصالح أجندات سلطة رام الله الأمنية ومحاولة سيطرتها على المخيمات الفلسطينية من الواضح أنها ليست الحاكمة فيه، أو أن السلاح الفلسطيني جزءًا من محاور عدة في المنقطة؟

وإلى أي مدى يمكن الحديث عن استهداف العرموشي في هذه الظروف يأتي استجابة لتحولات لبنانية وعربية صعبة، كان هو الضحية فيها؟

ثم إن كان استهداف شخصية كالعرموشي الذي سيقود إلى اشتباك فلسطيني داخلي، وفلتان أمني غير مسبوق، هو في حقيقة الأمر من أجل توريط الجيش اللبناني على غرار ما حصل في معركة مخيم نهر البارد؟

ولماذا تم ربط زيارة رئيس جهاز مخابرات سلطة رام الله ماجد فرج إلى لبنان، قبل الأحداث بأيام قليلة والاجتماع مع الجانب الأمني اللبناني، بعملية الاغتيال؟





وهل هناك نقاش حول هذه الزيارة الأمنية يدلل على أنه مبعوث الكيان الصهيوني إلى لبنان، كما هي وظيفته على الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية، من أجل ضبط سلاح حماس في المخيمات اللبنانية، والتي أصبحت تؤثر بسلاحها وعناصرها على أمن الكيان؟

أم أن الاشتباك الحاصل هو إعلان عن عدم سيطرة سلطة رام الله وأجهزتها الأمنية على المخيمات الفلسطينية في الداخل المحتل أو في اللجوء والشتات؟

بين هذه التساؤلات وغيرها، النقاش عميق ويعبر عن استفحال الأزمة الداخلية في الإطار الوطني الفلسطيني لتخرج أصوات عدة تقدم وجهة نظرها في الأحداث، كالنائب اللبناني د. أسامة سعد الأمين العام للتنظيم الناصري5، الذي اعتبر أن الهدف هو زعزعة الاستقرار الذي سيكون له انعكاسات خطيرة على الأمن الوطني اللبناني والفلسطيني، كما أن للاشتباك علاقة بالواقع الإقليمي غير المستقر، والمتحرك ضمن تفاهمات غير مكتملة أو واضحة، وهذا له ارتباط وثيق بالوضع اللبناني الداخلي القائم على برميل من المتفجرات، وأن الاشتباك يصب في مصلحة الكيان الصهيوني قبل كل شيء.

موضحًا حالة الضعف الداخلي الفلسطيني سببها عدم القدرة على الوصول إلى برنامج مشترك بين أقطاب النظام السياسي الفلسطيني، يعمل على مواجهة المشروع الصهيوني وتأثيراته على لبنان وفلسطين على وجه الخصوص.

والسؤال المهم هنا، هو من يلعب على النفوذ والصراع على مخيم عين الحلوة؟

والكثير يقال، لكن الأساس الوطني يسمح بأن يكون هناك تنافس على الجمهور الفلسطيني ومن يمثله وهذا مشروع، إلا أن الإشكال فيمن يستخدم السلاح لتحقيق ذلك، وفي واقع كمخيمات اللجوء في الشتات يجب أن تكون المنافسة على الحضور السياسي والاجتماعي، الخدماتي وليس الأمني العسكري، لأن انتشار السلاح بهذه الطريق غير المنظمة لن يجلب الأمن للمخيمات أو حتى أن يقود معاركه نحو التحرير.

هذا وعلى مدى سنوات ماضية تم الاتفاق على تشكيل اللجان الأمنية المشتركة لكن لماذا تم إضعافها لحساب تقوية عناصر الأمن الوطني بتبعيته لسلطة رام الله.




ومن المهم أن يتم تطويق الاشتباكات وألا تكون هناك عدوى لمناطق أخرى، وإن كان لا بد من لعبة المحاور فعلينا أن نكون متوازنين ضمن هذه اللعبة، دون تسرع أو انجرار كما حصل في الحرب العراقية الكويتية الظالمة.

والواضح تشكل تحالفات عدة في المنطقة العربية تنقسم إلى محور المقاومة ينتمي إليه فصائل فلسطينية وازنة تحمل سلاح المقاومة كحماس، الجهاد الإسلامي، الجبهة الشعبية وغيرها من فصائل أمام تحالف عربي عنوانه التطبيع مع الكيان الصهيوني وفيه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ومن يدور في فلكها، وعليه فكما هو الصراع بين قوى المحاور أيضًا هو بين الداعمين لهذا المحور أو ذاك، ليكون الصراع الفلسطيني الداخلي بين محور المقاومة والآخر المنتمي لطريق التطبيع والسلام مع العدو الصهيوني.

المخاوف هنا من أن يكون هناك من الفصائل الفلسطينية تعمل ضمن محاور داخلية في لبنان، كما فعلت منظمة التحرير فترة الحرب الأهلية اللبنانية وتحالفها مع جنبلاط زعيم الحركة الوطنية اللبنانية في حينه، وهذا ما يؤثر بشكل سلبي على التواجد الفلسطيني في لبنان واستقرار المخيمات معه.

وللتأكيد فإن السلاح داخل المخيمات الفلسطينية هو للأمن الداخلي للمخيمات، وليس ضمن اتفاق القاهرة عام 1969 سابق الذكر، لاختلاف الظروف الموضوعية، والسياقات التاريخية، وعليه يجب أن ينظم بالتعاون مع المرجعيات الأمنية والقانونية اللبنانية والفصائل الفلسطينية معًا.

الخاتمة:

لا يمكن إغفال الأيادي الخفية والعلنية في الأحداث الجارية، فهناك تزامن غريب بين محاولة الكيان الصهيوني إنهاء حالة المقاومة المسلحة المتصاعدة في مخيم جنين #بأس-جنين، وما تبعها من محاولات أجهزة أمن السلطة في رام الله من الانقضاض على المقاومة بمحاصرتها واعتقال عناصرها.

كما لا يمكن إغفال حرب الاعتقالات السياسية التي تقوم بها أجهزة أمن رام الله وفي نفس الوقت تدعو قيادة السلطة إلى اجتماع الأمناء العامين في مصر، هذا وتحريك المظاهرات في غزة تحت دعوى بدنا نعيش في هذه الظرفية يطرح كثيرًا من التساؤلات.




من بين كل ما سبق هناك من يعمل على تمزيق الساحات وإدخال الفتنة والفرقة بين مركبات الشعب الفلسطيني الذي يجب أن يكونوا واعين لكل هذه المخاطر والتحديات.



الهوامش

1/ آلان دونو، نظام التفاهة، ترجمة: مشاعل عبد العزيز الهاجري (بيروت. دار سؤال للنشر: 2015)، ص310

2/ المرجع السابق، ص276

3/ سِث أنزيسكا، قطع الطريق على فلسطين تاريخ سياسي من كامب ديفيد إلى أوسلو، ترجمة: داود تلحمي (بيروت. مؤسسة الدراسات الفلسطينية: 2022)، ص240-242

4/ المرجع السابق، ص290-291

5/ مقابلة مع أسامة سعد TV-RT، 02/08/2023





جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023