دايةُ التَّنَمُّرِ على قائِدٍ فَتحاوِيٍّ بهذا الوَزنِ الكَبير، من قِبَلِ هذا المأفونِ ابنِ غَفير، لَيسَ اعتداءً عاديًّا ولا عَفويًّا ارتِجالِيًّا، بل هو – بكلِّ وُضوح – يَمثِّلُ اعتداءً على الأَسرى كافَّةً دُونَ أيِّ استِثناء، وبالتَّالي هو اعتداءٌ وَقِحٌ وفَجٌّ ونَذلٌ على الكُلِّ الفِلسطينِيِّ دونَ أيِّ استِثناء، بكلِّ فَصائلِهم ومُكَوِّناتِهم الوَطنيَّة.
وهو ليس اعتداءً على السَّطحِ وفي هامِشٍ من هَوامِشِنا، بل هو اعتداءٌ يُصيبُ كلَّ تَفاصيلِنا: يُصيبُ كرامَتَنا ونَخوَتَنا وشَهامَتَنا، يُصيبُ أرواحَنا وأَفكارَنا ومشاعِرَنا كافَّة، ومِن شأنِه أن يُشعِلَ غَضَبَنا ويَضرِبَ مَراجلَ رُجولَتِنا ليُطلِقَ منها كُلَّ إرادةٍ حُرَّةٍ صادِقَة، وكُلَّ عَزيمَةٍ نَبيلَة، وكُلَّ هِمَّةٍ عاليةٍ رَفيعَة.
ولَنا أن نَتساءَل: لِماذا؟ أهو انفعالٌ في حالةِ نَشوَةٍ أَصابَته فَجأةً فارتَجَلَها بهذه الطَّريقة؟ أَحَسِبَ حساباتِها السِّياسيَّة واختارَ توقيتَها بِبراعةٍ وقَدَّرَ نتائجَها بما يُخدِمُ أَجنَدَةَ سِياسَتِه؟!
وهَل هي مُنَسَّقَةٌ مع حُكومَتِه؟ لا أعتقِدُ إلّا أَنها كذلك؛ مُنَسَّقَةٌ ومُرتَّبَةٌ ومَحسوبَةٌ سِياسيًّا.
هي تأتي في سِياقِ الشُّعورِ المُتَزايِدِ بغُرورِ القُوَّةِ وبَسطِ السَّيطَرَة: في غَزَّةَ بالتَّدميرِ المُريعِ والإبادةِ والتَّجويعِ سَعيًا للتهجير، وهُنا بتَدميرِ آخرِ ما تبقَّى مِن جُدُرِ الكرامةِ وحُصونِ الهُويَّةِ الوَطنيَّة، سَعيًا وراءَ تَهويدٍ وطَردِ الحُلمِ الفِلسطينِيِّ لِنَقبَلَ بما يُريدُهُ الاحتِلالُ لَنا: فُطُوعًا أو عَبيدًا في خِدمةِ هذا المَشروع، كَرهًا وقَهرًا أو طَواعِيَةً وعَمالَةً رَخيصَة.
لِذلك كان لا بُدَّ مِن اختِيارِ هَدَفٍ يُمثِّلُ الرُّوحَ الفِلسطينيَّةَ العاليةَ وعُنفُوانَها الذي قاومَ مَشروعَهُم بالعُنفُوانِ الفِلسطينيِّ الحُرّ. أن يُذِلَّ عُنفُوانُهم المُتَغَطْرِس العُنفُوانَ الفِلسطينيَّ الذي يُمثِّلُ قِمَّةَ المَشروعِ الوَطنيِّ بأعلى دَرَجاتِ وَعيِه والانتماءِ إليه والتَّضحِيَةِ مِن أَجلِه.
فاخْتاروا رَمزَ القِيادَةِ الفِلسطينيَّةِ الحُرَّةِ بما قَدَّمَت، وبما صَبَرَت، وبما أَعطَت: فِداءً وثَورَةً ومَعرِفَةً وثَقافَةً حُرَّة.
هو بذلك يُشعِلُ روحَ التَّحدِّي ويَضرِبُ الإرادَةَ الفِلسطينيَّةَ الحُرَّةَ في عُمقِها؛ فإنِ استجابَتْ للتَّحدِّي فالحَربُ سِجال، وغُرورُه يَطمَعُهُ بهَدَفٍ سَهلٍ سَنَحَتِ الفُرصَةُ بالقِصاصِ مِنهُ والقَضاءِ عليه.
ولكِن غُرورُه أيضًا أَعمى بَصيرَتَه عن رُؤيَةِ تاريخِ وماضي ومستَقبَلِ الشَّعبِ الفِلسطينِيِّ القائِمِ على قَبولِ التَّحدِّي ومُواصَلَةِ صِراعِ الإرادات. هو لا يُدرِكُ – بغُرورِه – أن شَعبًا مُتَجَذِّرًا، راسِخًا رُسوخَ الجِبالِ الرَّاسِياتِ على أَرضِه المُبارَكَة، قادِرٌ على قَلبِ الطَّاوِلَة.
شَعبٌ صاحِبُ قَضيَّةٍ عَظيمةٍ ومُقدَّسَة، شَعبٌ بِسَردِيَّتِه العَظيمةِ على هذه الأَرض، وبما يَملِكُ مِن إرادةٍ حُرَّةٍ وعَزائِمَ نَبيلَة، قادِرٌ على أن يَدخُلَ ساحَةَ النِّزال ويَجعَلَ حياةَ الاحتِلالِ جَحيمًا؛ احتِلالٌ لا يَهدَأُ له بالٌ ولا يَقِرُّ له قَرار.
يَستَطيعُ ابنُ غَفيرٍ أن يُشعِلَ النَّار، ولكنَّها سَتحرِقُه، ولن يَكونَ قادِرًا على إطفائِها أبدًا. لوِ التَفَتَ قليلًا إلى الوَراء، لرأى زَعيمَه العُدوانيَّ العُنصُريَّ المُتَطرِّفَ شارون: كيف أَشعَلَ نارًا في لُبنان عامَ 1982، وكيف ارتَدَّت عليه فهَرَبَ مِنها تاركًا عَتادَهُ وعُمَلاءَهُ وسُجونَهُ في أَشدِّ ساعاتِ اللَّيلِ ظَلامًا، حيث أَطلَقوا على عَمَلِيَّةِ هُروبِهم مِن لُبنان عامَ 2000 «الغَسَق».
وهو شارون أيضًا الذي أَشعَلَ انتِفاضَةَ الأَقصى باعتِدائِه السَّافِرِ على المَسجِدِ الأَقصى، وهو الذي فَرَّ مِن غَزَّة عامَ 2005. فلْيَرجِعْ قليلًا ويَنظُرْ ماذا أَنتَجَ حِصارُ غَزَّة الخانِق: طوفانٌ مَرَّغَ أُنوفَهُم وضَرَبَ غَطرَسَتَهُم في الأَرض.
إنَّ هذه العَربَدَةَ المَجنونَةَ بالتَّأكيدِ لها حساباتُها، ولَها مَعامِلُ إنتاجٍ في نُفوسٍ مَوتورَةٍ مَريضَة، لا تتجاوَزُ أُنوفَهُم العَفنَة، وسُرعانَ ما تَتحَطَّمُ على القِلاعِ الفِلسطينيَّةِ الشَّامِخَة.
مَروانُ البَرغوثِيُّ قَلعَةٌ عَصِيَّة، لا تُدرِكُ حقيقتَها الحُرَّةَ الأبيَّةَ أَصحابُ هذه القُلوبِ الغُلف، وهذه الرُّؤوسِ الصَّمَّاءِ المُربَّعَةِ الآسِنَةِ بما حَوَت مِن حِقدٍ وعُنصريَّةٍ وساديَّةٍ ونازيَّةٍ لا تَرى أَبعَدَ مِن أَنفِها.