ورقة سياسات
مركز حضارات للدراسات السياسية والاستراتيجية
الملخص التنفيذي
تشير التطورات الميدانية في الضفة الغربية، مدعومة ببيانات إحصائية حديثة، إلى تحوّل نوعي في طبيعة الاعتداءات والعنف الممارس ضد الفلسطينيين، لم يعد هذا العنف قابلًا للتفسير بوصفه تصعيدًا أمنيًا عابرًا أو احتكاكات موسمية، بل بات يشكّل نمطًا مستقرًا من أنماط حكم الاحتلال العسكري الإسرائيلي، تُستخدم فيه القوة—ولا سيما العنف الاستيطاني—كأداة تنفيذية لسياسة ضم صامتة، تتقدّم دون إعلان رسمي ولكن بنتائج تراكمية دائمة على الأرض.
تجادل هذه الورقة بأن العنف ليس خللًا في المنظومة الإسرائيلية، بل وظيفة من وظائفها، منسجمة مع العقيدة اليمينية الحاكمة التي ترى في الضفة الغربية مجالًا سياديًا غير قابل للتفاوض، وتخلص الورقة إلى أن استمرار هذا المسار يحوّل الضفة الغربية إلى ساحة “حرب منخفضة الكثافة” تُدار ضد السكان المدنيين، في ظل غياب الحماية الفلسطينية وفشل منظومة الردع الدولية، ولا يدع مجالا لسياسات تتجاوز المقاومة الفلسطينية بكافة أشكالها لردع هذه السياسات الاحتلالية.
أولًا: من الحدث الأمني إلى التجربة المعيشة
في التجمعات الفلسطينية الممتدة من شمال الضفة الغربية إلى جنوبها، لم يعد العنف حدثًا استثنائيًا، الفلاح الذي يُمنع من الوصول إلى أرضه، والراعي الذي تُذبح أغنامه، والعائلة التي يُقتحم بيتها ليلًا، لا تواجه حادثًا أمنيًا منفصلًا، بل تعيش سياسة متكاملة تُمارَس على الجسد والمكان والذاكرة.
يتجسد هذا العنف في تراكم يومي بطيء، يحوّل الخوف إلى عنصر ثابت في الحياة العامة، ويُعيد تعريف العلاقة بين الفلسطيني وأرضه، فالقوة هنا لا تُستخدم كاستثناء، بل كأداة إدارة، تُفضي إلى إنهاك المجتمع المحلي ودفعه نحو الانسحاب التدريجي، دون الحاجة إلى قرارات ترحيل جماعي أو إعلان ضم رسمي.
ثانيًا: انهيار سردية “الاحتكاكات” – قراءة في الأرقام
لسنوات طويلة، روّجت المؤسسة الإسرائيلية رواية مفادها أن العنف في الضفة الغربية ظاهرة ظرفية، غالبًا ما ترتبط بمواسم “حساسة” مثل موسم قطف الزيتون، غير أن البيانات الميدانية الحديثة تُفقد هذه السردية أي مصداقية.
ففي أكتوبر/تشرين الأول 2025، وثّق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية 264 اعتداءً نفّذه مستوطنون ضد فلسطينيين وأسفر عن إصابات و/أو أضرار بالممتلكات، وهو أعلى رقم شهري منذ بدء توثيق هذه الحوادث عام 2006، بمعدل يقارب ثمانية اعتداءات يوميًا.
كما تشير بيانات المكتب إلى توثيق نحو 1,485 اعتداءً استيطانيًا منذ بداية عام 2025 وحتى مطلع نوفمبر/تشرين الثاني، ما يعكس مسارًا تصاعديًا مستقرًا، لا موجة عنف مؤقتة .
تُظهر هذه الأرقام أن العنف لم يعد رد فعل على حدث بعينه، بل أصبح ممارسة منتظمة ذات وظيفة سياسية واضحة، تتمثل في فرض وقائع جديدة على الأرض.
ثالثًا: موسم الزيتون كخط تماس دائم
يتجلّى هذا التحول بوضوح خلال موسم قطف الزيتون، ففي الفترة الممتدة من 1 أكتوبر حتى 3 نوفمبر 2025، وثّق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية 150 اعتداءً مرتبطًا مباشرة بالموسم، أسفرت عن إصابة نحو 140 فلسطينيًا، إضافة إلى تخريب أو اقتلاع أكثر من 4,200 شجرة وغرسة زيتون في 77 بلدة وقرية فلسطينية.
وفي أسبوع واحد فقط، بين 28 أكتوبر و3 نوفمبر 2025، سُجِّل 44 اعتداءً استيطانيًا، أُصيب خلالها 18 فلسطينيًا، وتعرّضت مئات الأشجار للتخريب، إلى جانب إتلاف عشرات المركبات.
تعكس هذه المعطيات تحوّل موسم الزيتون من نشاط اقتصادي واجتماعي مركزي إلى ساحة مواجهة، يُعاد من خلالها رسم علاقة الفلسطيني بأرضه بالقوة، لا بالقانون.
رابعًا: الاستيطان كعقيدة حاكمة
لا يمكن فهم هذا العنف خارج سياقه الأيديولوجي، فاليمين الإسرائيلي الحاكم لا يتعامل مع الاستيطان بوصفه أداة تفاوض أو ورقة سياسية قابلة للمقايضة، بل باعتباره جوهر المشروع الصهيوني في الضفة الغربية، في هذا الإطار، تُقدَّم الأرض باعتبارها “حقًا تاريخيًا”، ويُختزل الفلسطيني إلى معضلة أمنية وديمغرافية.
تُعبّر مواقف وسياسات شخصيات مركزية في الحكومة الإسرائيلية الحالية، مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، عن هذا التصور بوضوح، حيث تُمنح السيادة أولوية مطلقة على أي اعتبار سياسي أو قانوني، ضمن هذا السياق، يصبح العنف الاستيطاني امتدادًا عمليًا للعقيدة الحاكمة، لا خروجًا عليها.
خامسًا: الضم الصامت وتسارع التخطيط الاستيطاني
بالتوازي مع العنف الميداني، يتقدّم الضم الصامت عبر أدوات التخطيط والبناء، ففي 20 أغسطس/آب 2025، أدان الأمين العام للأمم المتحدة قرار السلطات الإسرائيلية المضي قدمًا في الموافقة على أكثر من 3,400 وحدة استيطانية في منطقة E1 الحساسة، محذرًا من تداعياتها الخطيرة على التواصل الجغرافي للضفة الغربية وعزل القدس الشرقية.
وفي السياق ذاته، تشير تقارير حركة “السلام الآن” إلى أن المجلس الأعلى للتخطيط الإسرائيلي عقد اجتماعات أسبوعية منتظمة، وأنه منذ بداية عام 2025 وحتى أوائل ديسمبر، تم دفع أو تقديم 29,311 وحدة استيطانية ضمن مسارات التخطيط المختلفة في الضفة الغربية.
تعكس هذه الأرقام سياسة دولة ممنهجة، لا توسعًا عشوائيًا، حيث يُغني الفعل الميداني المتراكم عن الإعلان القانوني الصريح.
سادسًا: غياب الحماية وتحويل العنف إلى رسالة سياسية
في ظل هذا الواقع، يُترك الفلسطيني دون حماية فعّالة، فالسلطة الفلسطينية عاجزة ومقيّدة، والمبادرات المحلية للحماية الذاتية تُقمع أو تُفرغ من مضمونها، بينما يتمتع المستوطنون المعتدون بحصانة شبه كاملة.
لا يبدو هذا الغياب نتيجة فشل عرضي، بل سياسة غير معلنة تقوم على نزع الحماية بوصفه أداة لإعادة تشكيل السلوك المجتمعي: حين يدرك الفلسطيني أن لا جيش سيحميه، ولا شرطة ستنصفه، ولا محكمة ستردع المعتدي، يتحول العنف إلى رسالة يومية مفادها أن الوجود الفلسطيني على الأرض مشروط ومؤقت.
الاستنتاجات
تؤكد المعطيات التحليلية والإحصائية أن ما يجري في الضفة الغربية هو سياسة ضم ممنهجة تُدار بالعنف. العنف الاستيطاني جزء من بنية الحكم، منسجم مع العقيدة اليمينية الحاكمة، ويعمل ضمن غطاء أمني وقانوني انتقائي، ويُعدّ الضم الصامت، المدعوم بتسارع غير مسبوق في التخطيط الاستيطاني، أخطر من الضم المعلن، لأنه يتقدم دون صدام سياسي مباشر، ويقوّض تدريجيًا أي أفق لتسوية سياسية عادلة.
توصيات سياسات
توصي الورقة، على المستوى الفلسطيني، بإعادة توصيف ما يجري دوليًا بوصفه عملية ضم فعلي مستمرة، لا تصعيدًا أمنيًا، وببناء ملفات قانونية ممنهجة تربط العنف بالسياسة الرسمية، وتعزيز صمود الشعب الفلسطيني وقيام أجهزة أمن السلطة بحماية السكان من المستوطنين، إضافة إلى إعادة الاعتبار للمقاومة بكافة أشكالها، كموضوع إجماع وطني، وكأولوية وطنية.
وعلى المستوى الدولي، تدعو الورقة إلى الانتقال من بيانات القلق إلى آليات مساءلة حقيقية، وربط العلاقات مع إسرائيل بسلوكها الميداني، وتوفير آليات حماية ملموسة للمدنيين الفلسطينيين.
أما على المستوى البحثي والإعلامي، فتقع مسؤولية تفكيك خطاب “الاحتكاكات” وفضح طابعه التبريري، وإنتاج معرفة سياساتية تُظهر الضم بوصفه عملية بنيوية طويلة الأمد.
خاتمة
ما يحدث في الضفة الغربية ليس صراعًا على الأمن، بل صراع على معنى الأرض والوجود. وطالما يُدار المكان بالعنف، ويُترك الإنسان بلا حماية، سيبقى السلام شعارًا فارغًا، والمقاومة بكافة أشكالها هي المنهج الانجع للمواجهة، في الضفة الغربية، لم يعد هذا العنف خفيًا أو مؤقتًا؛ لقد أصبح أحد أشكال الحكم ذاتها.
قائمة المراجع
1 . Office for the Coordination of Humanitarian Affairs (OCHA).
Protection of Civilians Database and Monthly Reports , West Bank, 2025.
2. OCHA.
Olive Harvest Snapsho , West Bank, October–November 2025.
3.. United Nations Secretary-General
Statement on Israeli Settlement Activities in the Occupied Palestinian Territory , 20 August 2025.
4. Peace Now (Settlement Watch).
Settlement Planning and Construction Data , West Bank, December 2025.